لللإطلاع على المشهد التونسي وفك طلاسمه يستضيف موقع الحصري نيوز الجزائري الباحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية والحركات الإسلامية السيد جلال الورغي :
السؤال الأول: كيف تقيم المشهد في تونس اليوم؟
المشهد العام في تونس تسوده حالة من الإحباط العام. وهذه الحالة نتيجة طبيعية لمآلات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. سياسيا تعيش تونس أزمة سياسية عميقة، طالت لأول مرة مؤسسات الدولة. فلم تعرف تونس منذ الاستقلال إلى اليوم تشكيكا فعليا في شرعية مؤسسات كما هو حاصل اليوم. وذلك بسبب الإجراء الاستثنائي، أو الانقلاب على المؤسسات الدستورية، الذي أقدم عليه الرئيس التونسي قيس سعيد بشكل انفرادي، والذي تعمق بمجموعة من القرارات والمراسيم التي أظهرت البلاد ولأول مرة، تدار بشكل فردي بالمطلق، غابت فيه حتى المؤسسات الدستورية ولو لم تعتمد ولو شكليا أو رمزيا كما كان الوضع في عهد الحبيب بورقيبة وبعده زين العابدين بن علي. هذا المسار بقدر ما قوّض العمل الطبيعي للمؤسسات الدستورية، وجمّع كل السلطات بين يدي رئيس الجمهورية، بقدر ما قوّض ثقة الناس في هذه الإجراءات الانفرادية، وفي السلطة القائمة عليها. وأزمة الثقة وبالتالي الشرعية عبرّت عن نفسها بشكل صارخ في النسبة الهزيلة جداللمشاركة في الانتخابات التشريعية التي أقرها الرئيس وهندس قانونها وإجراءاتها بمفرده. وهي نسبة ضعيفة لم يسبق أن سجلتها لا تونس ولا أي دولة أخرى في العالم. لأول مرة يمكنك اليوم في تونس أن تسمع أوصافا لم تسمعها منذ قيام دولة الاستقلال من قبيل أن “الرئيس فقد شرعيته” و”الشعب سحب ثقته من الرئيس” وأن “الحكومة غير شرعية” و”الحكومة هي سلطة الأمر الواقع ولا شرعية لها”. هذه حالة من الإحباط عمقتها أزمة أداء حكومي هي الأضعف في تاريخ تونس، بشهادة الاتحاد العام التونسي للشغل. فلأول مرة يصطف الناس في تونس في طوابير للحصول على مواد أساسية لم تفقد أبدا في السابق، كالزيت والسكر والقهوة والأرز وحتى الحليب. ومع فقدان هذه المواد وارتفاع الأسعار، نجد حكومة أشبه بالطيف الذي لا يكاد يشعر به أحد. ضعف اتصالي غير مسبوق، لا رئيسة الحكومة ولا وزرائها، لهم القدرة على التواصل مع الرأي العام. ويعود ذلك انعدام شبه كامل للخبرة السياسية والعمل الحكومي. غياب الخبرة والتجربةزاد من تعقيدهانعدام أي شرعية لهؤلاء الوزراء الذين تم تعيينهم كأنهم مجرد موظفين إداريين، لا مرجعية لهم لا حزبية يعودون اليها ولا انتخابية يستندون عليها. ولقد مثل حرص الرئيس الذي عينهم على أن يكون هو صاحب الكلمة الفصل في كل المجالات والوزارات، عاملا آخر فيضمور العمل الحكومي وانكماشه، وانكفاء الشخصيات الوزارية.
لذلك فالمشهد في تونس اليوم عنوان أزمة سياسية حادة وخطيرة تهدد وجود الدولة. وهي أزمة عميقة بشهادة كل الفاعلين وكل المراقبين، وأي محاولة لإنكارها سيكون بمثابة المواصلة باتجاه هاوية سحيقة.
السؤال الثاني: من يتحمّل المسؤولية في الذي وصلنا إليه في تونس؟
لنكن واضحين، المسؤول المباشر لما آلت إليه الأوضاع اليوم هو دون شك الانقلاب على المسار الديمقراطي، وتقويض المؤسسات الدستورية، وتجميع السلطات بين يدي شخص، لا رقيب عليه من أي جهة. والقضية هنا لا صلة لا بطبيعة نظام الحكم، الذي يمكن أن يكون رئاسيا أو برلمانيا أو مختلطا، المهم يكون قائما شرعية دستورية وتعاقد سياسي. هذا اليوم أمر منعدم في تونس. لذلك المسؤولية المباشرة على الأوضاع تتحملها المنظومة التي انقلبت على الشرعية السياسية والدستورية التي انبنت على مدى عشر سنوات وتم وإلغاؤها في الخامس والعشرين من جويلية 2021.
لكن لن نستطيع ونحن بصدد رصد الواقع بميزان موضوعي أن نغفل المسؤولية المباشرة للمكونات الأخرى، التي تحملت مسؤولية في الحكم أو تلك التي في المعارضة ولم تؤمن المسار الديمقراطي وعملية الانتقال بطريقة صلبة، تمنع هكذا ارتدادات ونكسات. فالانقسام السياسي قبل الانقلاب، والتجاذبات المستمرة، وعدم التشبع بقيم الديمقراطية، جعل بعض الأحزاب، لا تتصرف بمسؤولية. فلا الأحزاب الكبرى قدرت الحاجة لتحول اقتصادي واجتماعي يعزز المسار الديمقراطي وجعله غير قابل للتراجع والانتكاسirreversible، ولا الأحزاب التي خسرت الانتخابات، تصرفت بمسؤولية وسمحت للأغلبية بالحكم، وإنما يستمر التجاذب والتعطيل من اليوم الأول التالي على إعلان نتائج الانتخابات.
دون شك تتفاوت المسؤوليات بحسب تحمل المسؤولية في الدولة.
وحتى تكتمل الصورة عن المسؤوليات، لا أحد يستطيع أن ينكر أن المنطقة العربية كلها ومناخاتها السياسية، كانت غير مرحبة بما يحصل في تونس، من تحول ديمقراطي، يحرجهم. حتى تشكل ما يسمى بمحور الثورات المضادة الذي بعب دورا متقدما، مستفيدا من قراته المالية، ليعمل جاهدا على تقويض الحصن الأخير في الثورات العربية وهو تونس وتجربته التي كانت على ما فيها من أخطاء محل تقدير واحتفاء الشعوب العربية. نعم نجح هذا المحور وساهم إسهاما حقيقيا في شيطنة الثورة ورموزها، ثم تقويض مسارها. ولقد نشرت وثائق كثيرة بعضها يدلل على التدخل المباشر في تونس من هذه الأطراف الخارجية لتقويض مسار الانتقال الديمقراطي.
السؤال الثالث: لو يقيم لنا سيد جلال أداء المعارضة بشتى أطيافها في هذه المرحلة الصعبة التي تمرّ بها تونس؟
قد لا يكون من الدقيق الحديث عن معارضة اليوم، حتى نرصد مواقفها. لأن المعارضة هي عادة ما ينشأ في نظام سياسي، يوزع المشهد السياسي عبر عقد اجتماعي مشترك، بين قوى تحكم وأخرى تعارض، في إطار مرجعية دستورية واحدة. اليوم نحن نفتقد لهذه المعادلة. وبالتالي لدينا سلطة الأمر الواقع تغلبا، وقوى سياسية جلها يرفض الاعتراف بهذه السلطة، وهو بالتالي لا يعارضها وإنما هو في مواجهة معها. ليست مواجهة بالمعنى العنيف، على العكس فالقوى السياسية التونسية، تشبعت بالثقافة السياسية المدنية السلمية، وهي اليوم إن تباينت مقارباتها في كيفية رؤية الحل، إلا أنها مجمعة على عمق الأزمة والحاجة للإنقاذ.
بيد أن هذا لا يمنع من الإشارة، أن جزءا من القوى السياسية التي تعارض سلطة الامر الواقع، اعتبرت الانقلاب في بدايته تصحيح مسار، وإنقاذا للبلاد، ولم تراجع مواقفها، إلا عندما خاب رهانها بالكامل على مسار الانقلاب، لم يكن تصحيحا للأوضاع وإنما انقلابا عليها، ولم يكن إنقاذا للبلاد، وإنما انقضاضا على الحكم والسيطرة على مفاصله، بتجميع الصلاحيات بين يدي الرئيس، وإدارة البلاد عبر مراسيم رئاسية.
القوى السياسية اليوم التي ترفض سلطة الأمر الواقع، ورغم خطورة الأوضاع، لا تزال محكومة بالصراع التقليدي، بينها. وتتردد الأحزاب الأساسية في التنسيق بينها، رغم ان جل المراقبين يعتبرون أن الخلافات والانقسام وعدم التوافق على حل تشاركي لإخراج البلاد من أزمتها، إنما هو تمديد في عمر الانقلاب، بل والسماح له بتوسع مجالات ردته، والتهيكل في مؤسساته تدافع عنه.
السؤال الرابع: أستاذ جلال هل ترى الإتحاد العام التونسي للشغل قادر على الضغط والوصول لمخرج من هذه الأزمة؟
لن نبالغ إذا قلنا إن دور الاتحاد العام التونسي للشغل، يبقى إشكالي بكل المعاني. فالمنظمة ساهمت مساهمة معتبرة في الثورة، رغم أن قيادتها كانت داعمة بشكل أو بآخر لنظام زين العابدين بن علي. بعد الثورة كان دور الاتحاد مضطربا، بين التصعيد في أغلب الأوقات، والتهدئة في بعضها. وقد عاب الكثير من المراقبين توغل الاتحاد في مساحات متقدمة، هي سياسية بامتياز. وكانت دوافعه في ذلك المكونات التي توجه قيادته، والتي لها ميولات وخيارات سياسية واضحة. وبقدر ما نثني على شراسة الاتحاد كمنظمة عريقة في الدفاع عن العدالة الاجتماعية، وحماية القوى العاملة من الغلاء وصعوبة الأوضاع الاجتماعية، فإنه يعاب على الاتحاد الاصطفاف في بعض الأحيان، لجهة سياسية على حساب أخرى. ولقد كان موقف الاتحاد في المجمل مؤيدا للإجراءات الاستثنائية (الانقلاب) التي أعلنها الرئيس، واعتبرها تصحيح مسار. ولم يبدي الاتحاد موقفا مقديا جديا لمسار الانقلاب، إلا أيام قبيل الانتخابات الهزيلة التي حصلت في 17 ديسمبر الماضي.
ورغم ذلك يحظى الاتحاد بتقدير جل القوى السياسية والأطراف الوطنية، ويمكنه أن يلعب الدور الإيجابي في عملية الإنقاذ. لكن في تقديري سيخطئ الاتحاد إذا لم ينصت لنبض الشارع والرأي العام، الذي أعلن موقفه من النظام الحالي من خلال المقاطعة الكبيرة للانتخابات. لذلك على الاتحاد إذا كان فعلا يرغب في أن يكون قوة اقتراح ومبادرة، أن يأخذ بعين الاعتبار أولا فشل منظومة الانقلاب في الاقناع بمسارها وخياراتها، وتطلع الرأي العام التونسي بمختلف قواه الحية لتغيير حقيقي، ينقذ المسار الديمقراطي، ويعيد الاعتبار لمؤسسات دستورية منتخبة وتمثيلية. وقد يغامر الاتحاد بما يحظى به من سمعة وتقدير، فيبدده إن هو انحاز لمسار غير دستوري، يحكم بالتغلب، واعتبره مرجعية في البحث عن حل.
لا أحد يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن لا أحد يقبل اليوم بمنظومة حكم الأمر الواقع، تغلبا وتسلطا، تفتقد للشرعية الدستورية.
السؤال: كيف ترى المواقف الخارجية (عربية /غربية) من المشهد في تونس،وما مدى تأثيرها عليه؟
الملاحظة الأولى والتي فيها نقطتين هي التالي. أولا المواقف الغربي رغم تباهيه بالديمقراطية وحاجة المنطقة للتحول الديمقراطي، إلا أن تونس عندما مضت فيها الطريق، لم تجد في الحقيقة الدعم الكافي من هذه الدول الصديقة لتونس الداعمة للديمقراطية. بالعكس تعاملت هذه الدول بتحفظ كبير مع تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وقد انتقد الكثير من الباحثين الغربيين هذا الموقف الغربي، واعتبروه موقفا سلبيا ساهم في انتكاسة التجربة وتراجعها. أما الموقف العربي فقد تأرجح إجمالا بين المراقبة الحذرة ومحاولة الاحتواء، وبين التدخل المكثف والمستمر لتقويض التجربة وإجهاضها، وهو موقف قاده محور الثورة المضادة.
والموقفان إجمالا يتكاملان ويتقاطعان في موقف عدم الدعم الاقتصادي والمالي للتجربة منذ قيامها، والاكتفاء بمساعدات هامشية رمزية. وهي مساعدات أبقت لم تمكن تونس من الخروج من هشاشة وضع الاقتصادي، ما عمق الأوضاع الاجتماعي الذي فاقمه وباء كورونا. فظلت تونس حالة قلقة لعشر سنوات، تسير على حافة الهاوية، لا تكاد تلتقط أنفاسها حتى تعود لحالة من القلق والارتباك. حتى أن البعض اعتبرها درسا وعبرة لكل من يريد خوض تجربة التغيير أو الدفع باتجاه التغيير الديمقراطي من شعوب دول المنطقة. يسجل للجارة الجزائر أنها ضمن دول قليلة جدا، رفضت العبث في المشهد التونسي، وكانت تنصح دوما بالتوافق والشراكة بين القوى السياسية. بل وحذرت الجزائر دول إقليمية مغامرة وجامحة من التدخل في الشؤون التونسية أو المس من استقراها. ولعل هذا الموقف الجزائري ساعد على إدراك الجميع في تونس، أن للصراعات والخلافات ضوابط وخطوط حمراء، تحمي السلم الأهلي والوئام المجتمعي.
ما هو السبيل للخروج من هذه الأزمة الخانقة في تونس في ظلّ المستجدات الداخلية والخارجية؟
أولا يجب الاعتراف أن الأزمات المعقدة والمركبة، والمتداخلة الأسباب والعوامل تحتاج مقاربة مركبة. ويقتضي هذا أن يدرك الجميع أولا ان البلاد في خطر وتحتاج لعملية إنقاذ جدية. ثانيا على القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني أن تدخل في حوارات جادة ومسؤولة للتوصل لتشخيص دقيق وسليم للوضع. وبحث سبل الخروج منه. وتقديري أن يكون الحوار مفتوح السقف، بدءا من أجل احتواء واستيعاب الجميع. ما يعني ذلك تجنب فرض المبادرات التي تستدرج الجميع للحل في إطار مرجعية سلطة الأمر الواقع المتغلبة.
نحتاج لمجلس حكماء، يتحلى بالشجاعة التاريخية، ويقدم مصلحة البلاد على كل المصالح وكل الرهانات الفردية والفئوية أو الحزبية. نحتاج لمبادرة من أجل تونس ديمقراطية، تتسع للجميع، في إطار مرجعية دستورية يبنيها التونسيون، ونظام سياسي يتوافق عليه، وجمهورية تقوم على أسس الأخوة والمواطنة والنهضة الشاملة. علينا أن نتداعي لكتابة بيان جديد..بيان من أجل الديمقراطية.. وعقد اجتماعي يؤسس لقواعد العيش المشترك، ويبني اجتماعا سياسات قائما على الشراكة والتوافقات، لا الغلبة والانقسامات.
السؤال السادس: الوضع في تونس قابل للانفجارالاجتماعي بين الحين والآخر كيف نتحاشى هذا وإنقاذ تونس؟
تواجه بلدان العالم كلها تحديات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، بسبب الركود الاقتصادي العالمي، والصراعات الدولية الدامية، معطوفة على مخلفات وباء كورونا. ويعلم التونسيون أن الكثير منهم وقف في طوابير طويلة وبالساعات أحيانا لملء البنزين، أو للحصول على الزيت أو الحليب أو السكر، وهي مظاهر تكون غريبة وصادمة للمجتمع التونسي. ولقد تزامن غياب العديد من المواد الأساسية من الأسواق مع غلاء غير مسبوق في الأسعار، لا يكاد المواطن براتبه العادي أن يجاريه. وفضلا عن ذلك يتزايد التضخم بشكل متسارع، مؤشرا على مزيد رفع الأسعار، بينما تتفاقم الديون وتكاد تتجاوز قيمتها قيمة الدخل الوطني الخام. في ظل هذه الأوضاع، يكون التوافق الوطني، وتضامن المجموعة الوطنية، السبيل الوحيد لتخفيف أعباء هذه الأوضاع الاجتماعية القاسية. وكلما تم احتواء التجاذبات السياسية، وهدأت الجبهات الاجتماعية، كلما وجدت البلاد نفسها قادرة على توسيع دبلوماسيتها فضاء جغرافيا، وتنويعها، بالخروج بها من الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية متعددة الأبعاد والمستويات، وتعزيزها، عبر تعهد القائم منها وتثويرها، ليكون مردودها أنجع وأكثر فاعلية ومردودية على البلاد. فمجابهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية خيار وطني وليس حزبيا.
والتغافل عن ضرورة معالجة الأوضاع بمختلف مؤسساتها، سيعمّق أزمتها الاجتماعية، ويهدد سلمها الأهلي، ووئامها المدني. تونس تحتاج لنفير كل أبنائها، وتثوير كل إمكانياتها، ودعم كل أصدقائها.
حاورته أحلام رحومة