على مشارف مدينة باخموت شرق أوكرانيا، تقاتل عناصر “فاغنر” ببسالة رغم البرد، بينما ينعم زملاؤها جنوب المتوسط، بالراحة بعد أن جاوزوا البحر الدافئ إلى سواحل الذهب الأسود، والأصفر جنوب الصحراء، يبدو أنه من المبكر الحديث عن قطع مخالب بوتين في ليبيا.
على مشارف مدينة باخموت شرق أوكرانيا، تقاتل عناصر “فاغنر” ببسالة رغم البرد، بينما ينعم زملاؤها جنوب المتوسط، بالراحة بعد أن جاوزوا البحر الدافئ إلى سواحل الذهب الأسود، والأصفر جنوب الصحراء، يبدو أنه من المبكر الحديث عن قطع مخالب بوتين في ليبيا.
مُنحت روسيا الفرصة لالتهام الكعكة الليبية بأكملها، في 2019، لكن فشلها في اجتياح طرابلس، لن يحرمها نصف الكعكة.
المغادرة نهاية المشروع
لا أعتقد أن عاقلا يصدق أن الروس قاب قوسين أو أدنى من الخروج من ليبيا أو حتى مجرد التفكير في ذلك، لعدة اعتبارات محلية ودولية.
لقد اكتسب الآلاف من المرتزقة الروس الخبرة في خوض حرب المدن وحُسمت الكثير من المعارك، حيث غالبا ما تتمكن المليشيات غير النظامية من تحقيق النصر أمام جيوش في حرب الشوارع.
وكادت هذه العناصر تحسم معركة طرابلس لولا تدخل الطيران التركي الذي قلب موازين القوى على الأرض وحطم منظومات الدفاع الروسية.
صحيح، كانت تلك المحطة الخاسرة الأولى لـ”فاغنر”، لكن مطامع بوتين لم تصل حد التفريط في مشروع وجودها في الموانئ والحقول النفطية الليبية التي وصلتها بشق الأنفس، مبكرا منذ انقلاب حفتر في 2014.
ثم منحت روسيا مجددا عشرة أشهر في 2019 بتواطؤ غربي، لالتهام كامل الكعكة باجتياح بقية الشطر الغربي بعاصمته، لكنها فشلت، وترى اليوم أن حقها في نصف الكعكة مكتسب، بعد أن تمكنت من دخول “جنان” الثروات ومصادرها شمالا وجنوبا، خاصة أنها لم تجن إلى اليوم تكلفة المعارك وخسرت أرواحا وعتادا.
لقد حصنت “فاغنر” مواقعها الاستراتيجية في قواعد عسكرية مهمة بالجنوب بعد 2020، على غرار قاعدة الجفرة وبراك الشاطىء، حيث تحافظ على إعادة انتشارها وتعمل منذ فترة على إطالة أمد بقائها، عبر بنيتها التحتية التي تراعي المتطلبات الأمنية والسيبرانية، وتعتمد على عنصري التمويه وإعادة الانتشار، وفق متغيرات المشهد السياسي.
آخر تلك المتغيرات، الضغوط الأمريكية القوية على مصر لممارسة ضغوط أخرى أكبر على موسكو، نقلها سامح شكري إلى نظيره سيرغي لافروف بهدف التخلي عن حفتر لفرض تهدئة مطولة في ليبيا، وضرورة الاستجابة لنداءات سحب عناصر “فاغنر”.
ففي جميع المستويات تقدر روسيا وجود قواتها في ليبيا، أمنيا وعسكريا واقتصاديا، لملء الفراغ السياسي ومنع قوى أخرى من لعب أدوار محورية أمام هشاشة الفاعلين المحليين.
ولا شك أن بوتين، السياسي المراوغ، يستغل المناخ المشجّع على التهدئة والاستقرار، بعد أن أظهر استجابته لدعوات اتفاق جنيف عبر الترويج لانسحاب بعض الأعداد من المرتزقة.
أظهر كذلك مرونة حاليا لسحب البقية لتوجيههم نحو المناطق المشتعلة بدونيتسك وما جاورها شرقي أوكرانيا.
والحقيقية أن الروس لا يعوّلون على “فاغنر” فقط في أوكرانيا، بل على عدة ميليشيات رديفة لـ”الجيش الأحمر” بما فيها كتائب مسلمة، لتعزيز صفوفها، تستعملها أيضا في سوريا والسودان.
كما تدعم الشركة الروسية مجموعات تشادية مقاتلة مع حفتر بإقليم فزان الغني بالذهب واليورانيوم، نحو السيطرة والتوسع في دول مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، مع توقع انتقالها إلى مواقع البترول والغاز في نيجيريا تحت مزاعم حمايتها من هجمات مسلحي دلتا النيجر.
سُبات مرحلي
البحث عن استقرار عسكري ضمن الرؤية الأمريكية المعادية للروس في كامل إفريقيا والشرق الأوسط، هو ما يجري حاليا، وهو ما جعل “فاغنر” تدخل في مرحلة سُبات ظرفي نتيجة متطلبات المرحلة وتكتيكاتها.
وليبيا منطقة عبور مهمة إلى الدواخل الإفريقية، حيث تتوغل الأجندة الروسية بقوة عبر مرتزقتها لغايات اقتصادية واستراتيجية، حيث تتمركز بالساحل الليبي الشرقي لتأمينه وتأمين عمليات التنقيب والاستكشاف للشركات النفطية الروسية العملاقة على غرار “تات نفط”.
فضلا عن اتخاذه محطةً لإمدادات سفنها من ذخيرة وجلب المرتزقة وتقديم كل أنواع الخدمات اللوجستية.
بالتالي سيتم تعليق تلك الأنشطة في أحسن الأحوال، وهو ما سيقع أيضا في إقليم الجنوب الليبي بعد انخفاض وتيرة الصراع بين قوات حفتر وقوات المنطقة الغربية، وتنشط هناك ميلشيات جنجويد التابعة لقائد قوات الدعم السريع السوداني، الذي يساند حفتر.
وقد بدأت في الانسحاب في إطار إخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا، لكن يجب التذكير هنا أن هذه الميليشيات هي الحلقة الأضعف بشأن الوجود الأجنبي مقارنة بالروس والأتراك.
فحضور المرتزقة الأفارقة يعود بدوره إلى تأثيرات روسيا، فهي التي أشرفت وتشرف على تدريب قوات حميدتي.
ساهم هذا العامل إلى جانب التقارب الحاصل بين الجيشين في لجنة خمسة زائد خمسة، لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، إلى حد كبير، في إحداث تغييرات على طريقة عمل “فاغنر”، فجمدت تحركاتها نسبيا، وباتت أقرب إلى خلايا نائمة يقتصر دورها على
تأمين آبار النفط بالمناطق الساحلية الشمالية، حتى يأتي ما يخالف ذلك.
ولا يمكن هنا فهم لقاء مدير المخابرات الأمريكية بحفتر، خارج التشديد الأمريكي على ضرورة التخلي عن “فاغنر”، دون التطرق إلى كيفية تحجيم دورها، عبر إبعادها عن المناطق الحساسة أو ترحيلها.
التراجع إلى الأماكن الخلفية
للحماية والمحافظة على وجودهم خاصة ابتعادهم عن الأضواء بعد أن كانوا يؤمنون مدنا مثل سرت والجفرة، ويختلطون بالناس في الشوارع والمحلات التجارية، تراجع أفراد “فاغنر” إلى قواعدهم الضيقة نظرا إلى طبيعة الظرفية الحالية، وهو التوجه نفسه الذي تعتمده روسيا في الشمال السوري بتجميد عملها ضد المعارضة السورية، ووقف ترحيل المرتزقة إلى ليبيا الذي ظلت تقوم به لسنوات.
وجزء من تلك السياسة هو نتيجة فقدان روسيا القدرة على التأثير بسبب خسائرها بالمستنقع الأوكراني، التي تجاوزت مائة ألف قتيل ودمار آلاف القطع الحربية ومئات الطائرات.
ثم ثانيا، لاعتبار الولايات المتحدة أنه يمكن التخلص من مجموعة “فاغنر” في ليبيا قبل أن تتحول إلى خطر على مصالحها هناك، بحكم عددها غير الكبير، خاصة عدم اعتراف الجانب الرسمي الروسي بوجودها هناك، ما يجعلها في حلّ من جميع تهم استهداف أمريكية، ما كان وراء رفع واشنطن من سقف الآمال في إبعاد أفراد فاغنر، ورجح البعض احتمال محاربتهم على الأرض بأياد ليبية، قبل أن يتحولوا إلى قوة ميليشياوية ضاربة.
قوة قد تهدد مصير شمال إفريقيا المعروف تاريخيا باستقراره السياسي إلى ما يشبه البؤرة الأوكرانية، حتى ظهرت أمريكا في صورة الوصي علي ليبيا، بينما من ضمن مطامعها في الواقع، تعويض تمويلات تسليح النظام الأوكراني.
عصا حفتر
رغم انتهاج الإدارة الأمريكية سياسة “من ليس معي فهو ضدي”، نتيجة القلق المتصاعد من الوجود الروسي في شمال إفريقيا، تؤلّب واشنطن حلفاء روسيا ضدها لطرد مرتزقتها والتحذير من سياستها الاحتلالية، لكن نقاط ارتكازهم الحيوية، في حقول البترول والقواعد العسكرية، لا يبدو هدفا أمريكيا سهل المنال على المدى المنظور، ولا بإمكان الروس التفريط فيه بمجرد إطلاق تهديدات أو تلويح بعقوبات على شركات تتعامل مع أفراد “فاغنر”.
صحيح أن الإمارات تتملص اليوم من تمويلهم، وحفتر الذي جاء بهم لا يملك القدرة على سداد حتى ديون متخلدة لمقاتليه فما بالك للمرتزقة، ومع ذلك فإن روسيا مستعدة للتكفل بجميع مستحقاتهم لاستمرار تأمين الغطاء الوظيفي لسياساتها الإقليمية.
الغطاء نفسه تبحث عنه أمريكا حتى وإن راجعت موقفها من أنظمة عسكرية تبحث فقط عمّن يثبّت السلطة بيدها، كائنا من كان -مع تراجع حراك الشارع رغم عدم تغير موقفه من القوى الاستعمارية ورفض التعامل معها- ثم لعدم وجود طرف ليبي قادر على فرض قوته على كامل التراب الوطني.
هذا أحد عوامل ارتفاع مشاعر الاحتقان الأمريكي ضد الحلفاء الإقليميين للروس، وهم حفتر والسيسي وتبون، لعدم اتخاذ مواقف صريحة ضد موسكو، مما بات يذكر بحالة الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي.
وبالتالي لم تتردد الإدارة الأمريكية في شن حرب دبلوماسية لتغيير وجهة تلك الدول، وليبيا أهمها، لمؤازرة التغيرات السياسية التي أملتها تقاربات المحاور والمصالحات الخليجية، ما جعل التجاذب يتخذ بعدا قُطريا لدول الثورات، ونأى بها إلى حد بعيد عن التأثيرات الخارجية.
هذا الانتقال التدريجي في مسار الثورات جعل الحرس القديم، وحفتر أحد أركانه الذي استوفى عمره الافتراضي (عقدان بعد التقاعد)، لا يثق في محاولات سحب البساط من أشد أدواته للهيمنة على مصادر الثروات، فالمرتزقة بالنسبة إلى حفتر عصاه التي يتوكأ عليها، ويهش بها على أنصار فبراير كلما استشعر خطرهم.
لكن رغبة جل الليبيين في إجراء انتخابات تقطع مع الشرعيات المتهالكة تراها واشنطن الحل الأقرب لمسايرة هذا الخيار الذي قد ينتج شرعية جديدة تطالب الأمريكيين بإخراج المرتزقة.
هذه الترتيبات تعززها فرضية تخلّي حفتر عن قيادته العامة للجيش، لصالح نجله صدام بعد ترقيته العسكرية، وبدئه منذ سنة تولي مهام سياسية في الداخل والخارج.
وعموما فإن صراع التيارات المتعاكسة، الذي يخمد حينا ويلتهب أحيانا، لم يسمح للاعب الأمريكي باتخاذ موقف صارم مثل هذه المرة، وسيستمر هذا الصراع في تعقيداته ما لم يتضح شكل القيادة الليبية الجديدة والموحدة (الانقسام خلق نوعا من التوازن)، لنعرف رؤيتها أشرقية أم غربية، وفي ضوئها تتحدد المواقف الدولية.
على مشارف مدينة باخموت شرق أوكرانيا، تقاتل عناصر “فاغنر” ببسالة رغم البرد، بينما ينعم زملاؤها جنوب المتوسط، بالراحة بعد أن جاوزوا البحر الدافئ إلى سواحل الذهب الأسود، والأصفر جنوب الصحراء، يبدو أنه من المبكر الحديث عن قطع مخالب بوتين في ليبيا.
مُنحت روسيا الفرصة لالتهام الكعكة الليبية بأكملها، في 2019، لكن فشلها في اجتياح طرابلس، لن يحرمها نصف الكعكة.
المغادرة نهاية المشروع
لا أعتقد أن عاقلا يصدق أن الروس قاب قوسين أو أدنى من الخروج من ليبيا أو حتى مجرد التفكير في ذلك، لعدة اعتبارات محلية ودولية.
لقد اكتسب الآلاف من المرتزقة الروس الخبرة في خوض حرب المدن وحُسمت الكثير من المعارك، حيث غالبا ما تتمكن المليشيات غير النظامية من تحقيق النصر أمام جيوش في حرب الشوارع.
وكادت هذه العناصر تحسم معركة طرابلس لولا تدخل الطيران التركي الذي قلب موازين القوى على الأرض وحطم منظومات الدفاع الروسية.
صحيح، كانت تلك المحطة الخاسرة الأولى لـ”فاغنر”، لكن مطامع بوتين لم تصل حد التفريط في مشروع وجودها في الموانئ والحقول النفطية الليبية التي وصلتها بشق الأنفس، مبكرا منذ انقلاب حفتر في 2014.
ثم منحت روسيا مجددا عشرة أشهر في 2019 بتواطؤ غربي، لالتهام كامل الكعكة باجتياح بقية الشطر الغربي بعاصمته، لكنها فشلت، وترى اليوم أن حقها في نصف الكعكة مكتسب، بعد أن تمكنت من دخول “جنان” الثروات ومصادرها شمالا وجنوبا، خاصة أنها لم تجن إلى اليوم تكلفة المعارك وخسرت أرواحا وعتادا.
لقد حصنت “فاغنر” مواقعها الاستراتيجية في قواعد عسكرية مهمة بالجنوب بعد 2020، على غرار قاعدة الجفرة وبراك الشاطىء، حيث تحافظ على إعادة انتشارها وتعمل منذ فترة على إطالة أمد بقائها، عبر بنيتها التحتية التي تراعي المتطلبات الأمنية والسيبرانية، وتعتمد على عنصري التمويه وإعادة الانتشار، وفق متغيرات المشهد السياسي.
آخر تلك المتغيرات، الضغوط الأمريكية القوية على مصر لممارسة ضغوط أخرى أكبر على موسكو، نقلها سامح شكري إلى نظيره سيرغي لافروف بهدف التخلي عن حفتر لفرض تهدئة مطولة في ليبيا، وضرورة الاستجابة لنداءات سحب عناصر “فاغنر”.
ففي جميع المستويات تقدر روسيا وجود قواتها في ليبيا، أمنيا وعسكريا واقتصاديا، لملء الفراغ السياسي ومنع قوى أخرى من لعب أدوار محورية أمام هشاشة الفاعلين المحليين.
ولا شك أن بوتين، السياسي المراوغ، يستغل المناخ المشجّع على التهدئة والاستقرار، بعد أن أظهر استجابته لدعوات اتفاق جنيف عبر الترويج لانسحاب بعض الأعداد من المرتزقة.
أظهر كذلك مرونة حاليا لسحب البقية لتوجيههم نحو المناطق المشتعلة بدونيتسك وما جاورها شرقي أوكرانيا.
والحقيقية أن الروس لا يعوّلون على “فاغنر” فقط في أوكرانيا، بل على عدة ميليشيات رديفة لـ”الجيش الأحمر” بما فيها كتائب مسلمة، لتعزيز صفوفها، تستعملها أيضا في سوريا والسودان.
كما تدعم الشركة الروسية مجموعات تشادية مقاتلة مع حفتر بإقليم فزان الغني بالذهب واليورانيوم، نحو السيطرة والتوسع في دول مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، مع توقع انتقالها إلى مواقع البترول والغاز في نيجيريا تحت مزاعم حمايتها من هجمات مسلحي دلتا النيجر.
سُبات مرحلي
البحث عن استقرار عسكري ضمن الرؤية الأمريكية المعادية للروس في كامل إفريقيا والشرق الأوسط، هو ما يجري حاليا، وهو ما جعل “فاغنر” تدخل في مرحلة سُبات ظرفي نتيجة متطلبات المرحلة وتكتيكاتها.
وليبيا منطقة عبور مهمة إلى الدواخل الإفريقية، حيث تتوغل الأجندة الروسية بقوة عبر مرتزقتها لغايات اقتصادية واستراتيجية، حيث تتمركز بالساحل الليبي الشرقي لتأمينه وتأمين عمليات التنقيب والاستكشاف للشركات النفطية الروسية العملاقة على غرار “تات نفط”.
فضلا عن اتخاذه محطةً لإمدادات سفنها من ذخيرة وجلب المرتزقة وتقديم كل أنواع الخدمات اللوجستية.
بالتالي سيتم تعليق تلك الأنشطة في أحسن الأحوال، وهو ما سيقع أيضا في إقليم الجنوب الليبي بعد انخفاض وتيرة الصراع بين قوات حفتر وقوات المنطقة الغربية، وتنشط هناك ميلشيات جنجويد التابعة لقائد قوات الدعم السريع السوداني، الذي يساند حفتر.
وقد بدأت في الانسحاب في إطار إخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا، لكن يجب التذكير هنا أن هذه الميليشيات هي الحلقة الأضعف بشأن الوجود الأجنبي مقارنة بالروس والأتراك.
فحضور المرتزقة الأفارقة يعود بدوره إلى تأثيرات روسيا، فهي التي أشرفت وتشرف على تدريب قوات حميدتي.
ساهم هذا العامل إلى جانب التقارب الحاصل بين الجيشين في لجنة خمسة زائد خمسة، لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، إلى حد كبير، في إحداث تغييرات على طريقة عمل “فاغنر”، فجمدت تحركاتها نسبيا، وباتت أقرب إلى خلايا نائمة يقتصر دورها على
تأمين آبار النفط بالمناطق الساحلية الشمالية، حتى يأتي ما يخالف ذلك.
ولا يمكن هنا فهم لقاء مدير المخابرات الأمريكية بحفتر، خارج التشديد الأمريكي على ضرورة التخلي عن “فاغنر”، دون التطرق إلى كيفية تحجيم دورها، عبر إبعادها عن المناطق الحساسة أو ترحيلها.
التراجع إلى الأماكن الخلفية
للحماية والمحافظة على وجودهم خاصة ابتعادهم عن الأضواء بعد أن كانوا يؤمنون مدنا مثل سرت والجفرة، ويختلطون بالناس في الشوارع والمحلات التجارية، تراجع أفراد “فاغنر” إلى قواعدهم الضيقة نظرا إلى طبيعة الظرفية الحالية، وهو التوجه نفسه الذي تعتمده روسيا في الشمال السوري بتجميد عملها ضد المعارضة السورية، ووقف ترحيل المرتزقة إلى ليبيا الذي ظلت تقوم به لسنوات.
وجزء من تلك السياسة هو نتيجة فقدان روسيا القدرة على التأثير بسبب خسائرها بالمستنقع الأوكراني، التي تجاوزت مائة ألف قتيل ودمار آلاف القطع الحربية ومئات الطائرات.
ثم ثانيا، لاعتبار الولايات المتحدة أنه يمكن التخلص من مجموعة “فاغنر” في ليبيا قبل أن تتحول إلى خطر على مصالحها هناك، بحكم عددها غير الكبير، خاصة عدم اعتراف الجانب الرسمي الروسي بوجودها هناك، ما يجعلها في حلّ من جميع تهم استهداف أمريكية، ما كان وراء رفع واشنطن من سقف الآمال في إبعاد أفراد فاغنر، ورجح البعض احتمال محاربتهم على الأرض بأياد ليبية، قبل أن يتحولوا إلى قوة ميليشياوية ضاربة.
قوة قد تهدد مصير شمال إفريقيا المعروف تاريخيا باستقراره السياسي إلى ما يشبه البؤرة الأوكرانية، حتى ظهرت أمريكا في صورة الوصي علي ليبيا، بينما من ضمن مطامعها في الواقع، تعويض تمويلات تسليح النظام الأوكراني.
عصا حفتر
رغم انتهاج الإدارة الأمريكية سياسة “من ليس معي فهو ضدي”، نتيجة القلق المتصاعد من الوجود الروسي في شمال إفريقيا، تؤلّب واشنطن حلفاء روسيا ضدها لطرد مرتزقتها والتحذير من سياستها الاحتلالية، لكن نقاط ارتكازهم الحيوية، في حقول البترول والقواعد العسكرية، لا يبدو هدفا أمريكيا سهل المنال على المدى المنظور، ولا بإمكان الروس التفريط فيه بمجرد إطلاق تهديدات أو تلويح بعقوبات على شركات تتعامل مع أفراد “فاغنر”.
صحيح أن الإمارات تتملص اليوم من تمويلهم، وحفتر الذي جاء بهم لا يملك القدرة على سداد حتى ديون متخلدة لمقاتليه فما بالك للمرتزقة، ومع ذلك فإن روسيا مستعدة للتكفل بجميع مستحقاتهم لاستمرار تأمين الغطاء الوظيفي لسياساتها الإقليمية.
الغطاء نفسه تبحث عنه أمريكا حتى وإن راجعت موقفها من أنظمة عسكرية تبحث فقط عمّن يثبّت السلطة بيدها، كائنا من كان -مع تراجع حراك الشارع رغم عدم تغير موقفه من القوى الاستعمارية ورفض التعامل معها- ثم لعدم وجود طرف ليبي قادر على فرض قوته على كامل التراب الوطني.
هذا أحد عوامل ارتفاع مشاعر الاحتقان الأمريكي ضد الحلفاء الإقليميين للروس، وهم حفتر والسيسي وتبون، لعدم اتخاذ مواقف صريحة ضد موسكو، مما بات يذكر بحالة الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي.
وبالتالي لم تتردد الإدارة الأمريكية في شن حرب دبلوماسية لتغيير وجهة تلك الدول، وليبيا أهمها، لمؤازرة التغيرات السياسية التي أملتها تقاربات المحاور والمصالحات الخليجية، ما جعل التجاذب يتخذ بعدا قُطريا لدول الثورات، ونأى بها إلى حد بعيد عن التأثيرات الخارجية.
هذا الانتقال التدريجي في مسار الثورات جعل الحرس القديم، وحفتر أحد أركانه الذي استوفى عمره الافتراضي (عقدان بعد التقاعد)، لا يثق في محاولات سحب البساط من أشد أدواته للهيمنة على مصادر الثروات، فالمرتزقة بالنسبة إلى حفتر عصاه التي يتوكأ عليها، ويهش بها على أنصار فبراير كلما استشعر خطرهم.
لكن رغبة جل الليبيين في إجراء انتخابات تقطع مع الشرعيات المتهالكة تراها واشنطن الحل الأقرب لمسايرة هذا الخيار الذي قد ينتج شرعية جديدة تطالب الأمريكيين بإخراج المرتزقة.
هذه الترتيبات تعززها فرضية تخلّي حفتر عن قيادته العامة للجيش، لصالح نجله صدام بعد ترقيته العسكرية، وبدئه منذ سنة تولي مهام سياسية في الداخل والخارج.
وعموما فإن صراع التيارات المتعاكسة، الذي يخمد حينا ويلتهب أحيانا، لم يسمح للاعب الأمريكي باتخاذ موقف صارم مثل هذه المرة، وسيستمر هذا الصراع في تعقيداته ما لم يتضح شكل القيادة الليبية الجديدة والموحدة (الانقسام خلق نوعا من التوازن)، لنعرف رؤيتها أشرقية أم غربية، وفي ضوئها تتحدد المواقف الدولية.
مختار غميض