الحصري نيوز الجزائرية تحط الرحال في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية في حوار تربوي علمي مع الدكتور مصدق الجليدي من قابس الحناء التي تبقى ولادة في العديد من المجالات:
س1: لنقدم في البداية الدكتور مصدق الجليدي الإنسان؟ البيت ، النشأة
الأستاذ مصدّق الجليدي، أستاذ باحث في الجامعة التونسية درس بدار المعلمين العليا ببنزرت، وبجامعة الزيتونة، وبالمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر، وأخيرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. متحصّل على الدكتورا في علوم التربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس (2008) وهو كاتب ومفكرّ مجدّد في حقول التربية والثقافة والفكر الديني، خبير دولي في التربية، وأحد قادة الرأي والإصلاح التربوي في المجتمع المدني بتونس.
س2: أنت دكتور في علوم التربية ( وما أدراك ما التربية)،كيف إتخذت هذا القرار وهذا التوجه ؟وكيف وجدت تداعياته على حياتك العملية؟
التربية أنسنة. بدون تربية لا يكون الإنسان إنسانا. فالإنسان “صنعة التربية” كما يقول علماء الاجتماع. و”بدون تربية يبقى الإنسان في حالة مسوخ وفي مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان”كما يقول لوسيان مالسونLucien Malson في كتابه “الأطفال المتوحّشون ” (1964). ولذا، فالتربية هي كل شيء للإنسان. وهي لا تعني الجانب المعنوي فقط في تنشئة الإنسان، بل تشمل أيضا وتبتدئ بجانبه الحيوي والصحّي. فالتربية من التنمية (ربا يربو، أي نما ينمو). ولهذا نجد في تراثنا الأصيل ما يفيد هذا المعنى، مثلما جاء في كتاب ابن الجزار القيرواني (ت. 369ﻫ/ 979-980 م) “سياسة الصبيان وتدبيرهم”. فالتربية هي سياسة صغرى، وهي سياسة الصبيان، والسياسة هي تربية كبرى، وهي تربية الجمهور، أي توفير كل ما يساعد على نموّ الشعب وإمكانياته المادية والمعنوية ونموّ البلد الذي يعيش فيه. كتاب ابن الجزار مصنّف في عداد الكتب التربوية في التراث الثقافي العربي، إلا أنّ هذا الكتاب ليس كتابا في التربية بالمعنى التقليدي والضيق للكلمة، بل هو كتاب وضع في غالبه لمعالجة موضوع العناية الصحية بالأطفال، ولم يحتو إلا على فصل واحد في التربية بمعناها المباشر التعليمي والتأديبي، وهو الفصل الثاني والعشرون الذي جاء تحت عنوان “في الأمر بتأديب الأطفال”. استطردت في هذا المعنى لأبين أن دلالة التربية في ثقافتنا الأصيلة دلالة شاملة لمكوّنيْ الإنسان المعنوي (العقل- الوجدان- الخيال- الروح) والمادي (الصحة البدنية). في الأندلس زمن ازدهار الحضارة الإسلامية، كانت توجد مستشفيات بها حمامات ساخنة وباردة مجهزة بمكتبات للمطالعة، كما أنّ بها ورشات لتعلم مختلف الصنائع، إلى جانب المسجد. فكان المريض يخرج من المستشفى وهو معافى بدنيا وعقليا وروحيا وفي حوزته صنعة تعفيه من ذلّ السؤال ومغص الحاجة. التربية إذن كما نعاينها هنا روحُ حضارة وبانية الإنسان الباني للحضارة والعمران البشري. الآن، بدأ الوعي المعاصر يعود إلى هذا المعنى الأصيل للتربية، بعد أن وضع الإنسان في أقفاص الغربة الروحية والجفاف المادي والبعد الآحادي المركّز على المعرفة ذات الوظيفة الأداتية. وبدأنا نتحدّث مع إدغار موران على ضرورة رفع الحواجز في التربية بين مختلف أبعاد ومكونات الشخصية الإنسانية. فبحسب موران، “كل نزعة عقلانية تتجاهل الكائنات والذاتية والوجدان والحياة هي نزعة لا عقلانية. على العقلانية- يقول موران- أن تعترف بأهمية الوجدان والحبّ والتوبة” (في كتابه “تربية المستقبل”).
والتربية، كما أسلفت تنمية، ولكن ليس بالمعنى اللغوي فقط، بل بالمعنى العمراني أيضا. أي وجود ارتباط عمراني بين التربية والتنمية…فلا تنمية متطورة بدون تربية متطورة. كما أن التربية تتطلب شروطا مادية ومعنوية توفرها التنمية. في النهاية نقف على علاقة جدلية بين التربية والتنمية.
وفي المحصّلة الأخيرة التربية عملية تخليق شامل ومتجدد للإنسان والمجتمع والبشرية جمعاء.
أتيتها أوّلا متعلما ومربَّى منذ سنة 1968. ثم لما أدبرتْ أتيتُها معلّما ومربّ سنة 1984. وكانت هنالك مراوحة بين دوري التعلّم والتّعليم. فقد درّستُ في الابتدائي السنين الطوال (17 سنة)، ثم مررت بالتعليم الثانوي زهاء عقد من الزمن، وها أنا أقارب العقد في التعليم العالي. ثم عمّقت العلاقة معها بأن جعلتها موضوعا للنظر العقلي والعلمي، فعالجتها في اختصاص علوم التربية، حتى أوغلتُ في بعض فيافيها وغُصْت في بعض بحارها (وهو ما يسمى في تراثنا الأصيل بالتبحّر) وذلك مع حصولي على شهادة الدكتورا في علوم التربية سنة 2008. ولا زلت أراوح بين فعل التعلم والاستزادة من العلوم التربوية من جهة، والتعليم والتنظير في هذه العلوم، من جهة أخرى، حيث ألّفت فيها إلى حد الآن، علاوة على دراستي المعمقة حول “نظريات المعلمين الضمنية” ورسالتي للدكتورا حول “اعتقادات المتعلمين الابستيمية في علاقتها بحل المشاكل المركّبة والمفتوحة في مجال العلوم الإنسانية”، وعلاوة على كتبي الأخرى في مجال تجديد الفكر الديني، خمسةَ كتب، وهي على التوالي: في علوم التربية (2002)، رواد الإصلاح التربوي في تونس (2009)، تربية المستقبل (2014)، المجالات التربوية من منظور الأصالة المبدعة (2016)، النظم التربوية المغاربية (2017). كما كان لي شرف المشاركة في التأسيس لاختصاص معرفي وأكاديمي جديد فيها وهو اختصاص “ديداكتيك (أو تعلمية) الدراسات الإسلامية”. كان ذلك مع مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، معرفيا، ومع المعهد العالي للحضارة الإسلامية، بالاشتراك مع جامعة تونس الافتراضية، أكاديميا.
بالإضافة إلى مؤلف النظم التربوية في البلدان المغاربية (تونس، 2020) والبنائية الاستخلافية: بديل تربوي حضاري، الجزائر، 2022) و”التربوي والمفكر” (الرباط، 2023) و”دراسات في التربية الأصيلة”(تونس،2023).
س 3:من هم رموز التربية الذين أثروا فيك؟
بطبيعة الحال، بما أني نشأت كأغلب أبناء بلدي، في أسرة فاضلة، فإن أوّل من أثّر فيّ هما أبواي. أبي بعشقه للمعرفة والمطالعة وإعلاءه لخُلُق الصدق والانضباط، وأمّي بذكائها الفطري والاجتماعي وبتحفيزها المتواصل لي.. ولقد تأثّرت كثيرا في صغري بشخصية الرسول محمّد(ص) وذلك من خلال قراءتي في نادي المطالعة بمدرستي بقرية النحال من ولاية قابس، لسلسلة كاملة من السيرة النبوية المختصرة والميسّرة. وكان أبي يقصّ عليّ من قصص الأنبياء كذلك. وفي المدرسة أيضا كان لمعلمين مجدّدين ومحبّين أثر طيّب عليّ. أذكر منهم الأفاضل علي موسى وعبد العزيز الحناشي والسيدة كحيلة ومصطفى العزوزي وعبد الحميد الزنزوري ومحسن قويدر. بعد ذلك تأثرت من خلال القرآن الكريم بمعلمي ومربي البشرية الأوائل الرسل والأنبياء الكرام…إبراهيم وإسماعيل ويوسف وشعيب وصالح وموسى وعيسى عليهم السلام…كما تأثرت بحكماء البشرية وفلاسفتها الكبار، أمثال أفلاطون ودرسه التربوي الخالد عن الحقيقة وأوهام الكهف، وأرسطو ومنهجه القاطع مع مثالية أفلاطون والجامع بين المادة والصورة، وفي التراث التربوي العربي، كان تأثري تربويا بابن خلدون كبيرا للغاية…وهو في نظري أبو الحداثة التربوية العربية ومؤسس علوم الإنسان فيها على أسس عقلانية استقرائية (علمَا التاريخ والعمران البشري، الذي كان مزيجا من علم التاريخ والأنطروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي) وقد كان ابن خلدون أحدَ الذين أفردتهم بفصل في كتابي “رواد الإصلاح التربوي في تونس”، أما في العصر الحديث، فأنا مدين للدرس الأخلاقي الكانطي وتأملاته في التربية ولروسو “اميل والتربية”، ثم لرائد البنائية الكبير السويسري جان بياجيهJean Piaget وندّه الروسي فيغوتسكي Lev Semyonovich Vygotskyرائدالتيار البنائي التاريخي الثقافي، ولرائد البنائية الثقافية الأمريكي جيروم برونرGerome Bruner..كما أنني أقدّر كثيرا مجترحي مفاهيم الديداكتيك المعاصر أمثال الفقيد جان بيار أسطلفي Jean Pierre Astolfiفي مجال العلوم الصحيحة، وايفس شوفلارYves Chevallard في مجال الرياضيات، وفرانسوا أوديجييهFançoisAudigier في مجال العلوم الاجتماعية… وقد التقيت الثلاثة الأخيرين وناقشت معهم بعض المسائل العلمية الدقيقة. وفي الحقل المعرفي الدقيق الذي تخصصت فيه وهو علم النفس المعرفي التربوي، كان لمؤسسي التقليديْن البحثيِيْن الجديديْن حول نظريات المعلمين الضمنية، واعتقادات المتعلمين الابستيمية، أو نظرياتهم الضمنية حول المعرفة، بالغ الإفادة لي في نحت شخصيتي العلمية المتخصصة. أذكر من هؤلاء خاصة الباحثين الأمريكان بِترسونPeterson، وكلاركClark، ووِليام بِرّيWilliam Perry، ومارلان شومرMarlene Schomer، ووليام بِنتريشWilliam Pintrich الذي افتقدناه مبكّرا،وباربرا هوفرBarbara Hofer، والباحثان البلجيكيان مارسيل كراهيه Marcel Crahayو فاليري بافراي دومونValery-BaffreyDumont التي أوحت إليّ بموضوع رسالة الدكتورا من خلال اطلاعي على ما كتبته عن الاعتقادات الابستيمية في الجامعة الكاثوليكية لوفان لا-نوف Louvain la-Neuve. وأغلب هؤلاء تعاملت معهم بصفة شخصية. وبالمناسبة، لمست من عموم الباحثين الأمريكيين الذي تعاملت معهم سخاء وكرما بالغيْن. فهم لم يتردّدوا في مدّ يد المساعدة العلمية إليّ، لمّا أخبرتهم بشحّ الموارد في بلدنا في المجال العلمي الذي ساهموا في تأسيسه وتطويره. فأرسلوا إليّ بأهمّ بحوثهم ودراساتهم وأحدثها فيه. وقد حرصت على التوجّه نحو تقاليد بحث أنغلوسكسونية والابتعاد عن التقليد البحثي الفرنكفوني، لا بدوافع إيديولوجية، فأنا لا أنكر استفادتي العظمى من فلاسفة فرنسيين كبار أمثال ديكارت وهنري برغسون، ومن تربويين أفذاذ أمثال غاستونميالاريGaston Mialaretوميشال دوفلايMichel Develay ومارغريت آلتي Marguerite Altetوأوليفييه ربولOlivierReboul، ومن قبلهم بإميل شارتيي الذي اشتهر باسم آلان Emile Chartier (Alain)، وإنما فعلت ذلك لسببين:
أوّلا: جدّة وطرافة المشكلات العلمية التي تطرح في المجال الأنغلوسكسوني.
ثانيا: طابعها الإجرائي الدقيق، وثراء ترسانة الأدوات البحثية والتحليلية والإحصائية المسخّرة لها.
وقد لاحظت أن عددا من مواضيع البحث التي تظهر في أمريكا وفي العالم الأنغلوسكسوني بصفة عامة، لا يقع تداولها في العالم الفرنكفوني إلا بعد حوالي عشرين سنة، وأننا نهتم بها في تونس بعد الفرنسيين والبلجيكيين بمعدّل ثلاثين سنة، أي أننا نخسر حوالي نصف قرن، لنشرع في تهجّي أبجدية تلك المباحث. وهو ما صمّمت على القطع معه، بما تسبب لي في بعض التأخير للمصادقة على موضوع رسالتي في الدكتورا حول الاعتقادات الابستيمية Epistemological Beliefs، حيث لم يفهم أساتذتي في البداية عما أتحدّث، حتى وافيتهم بقائمة أوّلية للمراجع باللغة الانجليزية تحتوي على خمسين مرجعا (تجاوزت في ما بعد المائتيْ مرجع) وأعددت لهم بحثا أوليا مختصرا من خمسين صفحة une pré-enquête. وقد تأكّدت في ما بعد أن الموضوع الذي تطرقت إليه في الدكتورا لم يطرق من قبلُ في جامعات ومراكز بحوث العالم العربي، وأن أطروحتي كانت تقريبا الأطروحة الثانية أو الثالثة حوله باللغة الفرنسية، وهو ما أشاد به رئيس مخبر علم نفس التربية بكلية علوم التربية بجنيف مارسيل كراهيه، الذي تبادلت معه مواد علمية حول المسألة من إنتاج كِليْنا، لما زارنا في المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر في تونس، قبيل مناقشتي للدكتورا بأشهر قليلة فقط. أسرد كلّ هذا التفاصيل، لكونها جزءا من تاريخ البحث في علوم التربية في تونس وعلى ضفتيْ المتوسّط.
س4: رصيدك حافل بالكتابات والإصدرات والمشاركات والندوات في مجال التربية ،إذا أردنا تقديمها باختصار ؟وكيف كان صداها؟وماهي مشريعك المشتقبلي؟
بلغ رصيدي الآن من المؤلفات عشرين كتابا، وشاركت في تأليف خمسة عشر كتابا آخر مع زملاء باحثين، نُشرت في الجزائر والرباط وبيروت وعَمّان ودُبي. تتوزع كتبي على ثلاثة مجالات كبرى: التربية والحضارة والإبداع. وتوجد بعض كتاباتي في منطقة التقاطع بين التربية والحضارة. أول كتبي في مجال التربية نشرته سنة 2002 تحت عنوان “في علوم التربية: مقاربات سيكولوجية وابستمولوجية”، وأول كتاب لي في مجال تجديد الفكر الديني هو كتاب “ختم النبوة: ابستيمية مولد العلم الحديث (تونس، 2002)، وآخرها كتابان نشرا لي على التوالي العام الماضي (2022) وهذه الأيام (جوان 2023) وهما “البنائية الاستخلافية: بديل تربوي حضاري” (بالجزائر) و”دراسات في التربية الأصيلة) (بتونس). كما نُشر لي هذه السنة بالرّباط كتاب في السيرة الذاتية “التربوي والمفكّر: سيرة ومسيرة” رويتُ فيه ملحمة تحوّلي من معلّم بالأرياف النّائية بالجنوب التّونسي إلى أستاذ محاضر بالجامعة التونسية وفي بلدان عربية وإسلامية وأوروبية كثيرة وما رافق ذلك ونتج عنه من بناء تربوي علمي ومن بناء فكري حضاري. ولعل الكتاب الذي وجد ترويجا واسعا في العالم الإسلامي أكثر من غيره، فوصل المكتبات الجامعية بالمغرب الأقصى غربا، والمكتبات الجامعية بالسعودية ولبنان شرقا، مرورا بعدة بلدان عربية أخرى، هو كتابي “الإسلام والحداثة السياسية” (بيروت، 2010). ويمكن اعتبار كتابي “أنوار حداثية أصيلة” قمة تفكيري في قضية تجديد الفكر الديني في الإسلام. وكتابي عن “البنائية الاستخلافية” قمة تفكيري في المسألة التربوية من منظور بنائي حضاري. ولا ننس أخيرا مصدق الجليدي ذا المحاولات الإبداعية في الشّعر العربي والفرنسي التي نشر له منها إلى حدّ الآن مجموعتان شعريتان آخرهما “أحلام يقَظة” Songes et Rêves (تونس، 2021)، وأنا بصدد توظيب مجموعة شعرية بالعربية وأتطلع، بعد الفراغ من جملة من المهام العلمية والفكرية خلال بضع سنوات، إن كنت “من أهل هذه الحياة” إلى كتابة رواية تحكي محنة وملحمة الإنسان الوجودية من خلال استدعاء وقائع متعينة ومتخيّلة.
س5: ما هي الصعوبات التي يواجهها قطاع التربية في تونس من وجهة نظرك ؟
أذكّر بداية أن علوم التربية من الناحية التاريخية قد ظهرت بفرنسا منذ سنة 1967على يد ثلة من التربويين أمثال غاستون ميالاري G. Mialaret وموريس دوباس وM. Debesseوميالاري هو الذي اقترح تغيير عبارة بيداغوجيا بعبارة علوم تربية، وذلك لا لمجرّد تجاوز لفظي ولكن لتحقيق تجاوز ابستيمولوجي مزدوج، تمثّل أساسا في استبدال أحادية التناول بتعدديته، واستبدال تصفيفيّة العلوم التربوية والإنسانية بتفاعلها وتداخلها وتكاملها. هذا وقد أحصينا لعلوم التربية سبعة عشر علما متفرعة عن هذا العلم التعددي التفاعلي (الجليدي، 2002)، مثل فلسفة التربية، وعلم نفس التربية، وعلم اجتماع التربية، وتاريخ التربية، واقتصاد التربية، وأنطروبولوجيا التربية، وعلم التعليم، والديداكتيك بأنواعها، والبيداغوجيا، وعلم النفس الاجتماعي التربوي، وعلم نفس المعلم…الخ. وعلوم التربية في تزايد مطّرد. فهي تقارب موضوع التربية فائق التركيب من مداخل متعددة ومتداخلة.
وقد تم استقدام علوم التربية إلى تونس سنة واحدة فقط بعد ظهورها بفرنسا، حيث بعثت الأستاذية في علوم التربية عوضا عن الإجازة في علم النفس التربوي، ولكنها لم تعمّر طويلا. ولم تعد إلى الظهور بتونس إلا سنة 1997 في إطار ما يعرف بفتح الآفاق للمعلمين بالمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر، وكان لي حظ وشرف الانتماء لأول دفعة في هذا الاختصاص والتحصل على أول دكتورا في علوم التربية من بين الذين درسوها في فتح الآفاق للمعلمين، ولكن ذلك تم في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس، وقد أغلق قسم المرحلة الثالثة لعلوم التربية بهذه الكلية منذ سنوات عديدة.
بعد الثورة، نشط المجتمع المدني في مجال التربية من أجل المطالبة بكلية علوم التربية، وكانت جمعية تطوير التربية المدرسية التي انتميت إليها وكنت من بين مؤسسيها، أوّل الفعاليات المدنية المطالبة بإحداث هذه الكلية حتى قبل الثورة وجددت المطالبة بها بعدها، وتبنى هذا الطلب الائتلافُ المدني لإصلاح المنظومة التربوية وضمّنه كتابه الأبيض لإعادة بناء المنظومة التربوية. ولكن توجد إلى الآن مقاومة في وزارة التربية وفي وزارة التعليم العالي لإحداث هذه الكلية، رغم أن تونس هي اليوم البلد الوحيد في العالم تقريبا الذييفتقر لمؤسسة جامعية عليا في التربية. وقد اكتفى الوزير السابق للتربية وزميله وزير التعليم العالي بإحداث إجازة تطبيقية في علوم التربية، سرعان ما تحولت إلى إجازة تطبيقية للتربية والتعليم، وهنالك نية هذه السنة لإحداث الماجستير المهني للتربية والتعليم..ولكن هذا لا يكفي، وذلك لأن احتياجات المنظومة التربوية تتجاوز ببعيد في مستوى الموارد البشرية، إطارات التدريس الذين سيتخرجون من تلك الإجازة وهذه الماجستير. حيث إن كلية علوم التربية التي نتمسك بإحداثها توفر أغلب حاجات المنظومة التربوية المنهاجية، ومنها:
- المتخصصون في بناء وتقويم النظم التربوية، والمتخصصون في بناء المناهج التربوية، والمتخصصون في المقاربات التربوية العامة وفي الطرق البيداغوجية، والمتخصصون في التقويم التربوي، والمتخصصون في منهجيات التأليف المدرسي، والأساتذة والباحثون في مختلف أصناف علوم التربية، وقيادات الإدارة التربوية والمكوّنون في مراكز التكوين التربوي والباحثون في مراكز البحث التربوي والتجديد البيدغوجي…الخ. وهذا يعني امتداد الدراسة في كلية علوم التربية على كل مراحل التعليم العالي من الإجازة إلى الدكتورا. وفي غياب كل هذا، تلتجئ وزارات التربية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتكوين المهني والتشغيل، إلى بيوت الخبرة الأجنبية لتعدّ لها برامج وخطط الإصلاح والمناهج التربوية والتكوينية، مثلما ما هو الحال منذ سنة 2003 مع المركز الدولي للدراسات البيداغوجية الذي هو جهاز رسمي تابع لوزارة التربية الفرنسية.
لماذا طرح سؤال الأزمة الآن والحال أنه من المفترض أن هذه المسألة قد تم تجاوزها في الوقت الحاضر بعد أن قطع “الإصلاح التربوي” أشواطا في طريق بلورة الحلول لمعضلات المدرسة التونسية؟
يجب أن يعاد طرح هذا السؤال جذريا لأن المسار الذي تخذه تمشي الإصلاح التربوي في المستوى الرسمي هو مسار، برأينا، مغلوط، وما الأزمة التي قامت بين لجنة إعداد المنهاج التربوي العام (المتكونة من متفقدين تابعين لوزارة التربية التونسية) وبين الجهة الخارجية المشرفة على إعداد هذا المنهاج (مركز دراسات دولي للتربية تابع لوزارة التربية الفرنسية (CIEP) ووزارة الخارجية الفرنسية) إلا أحد المؤشرات على غلط هذا المسار.
أما بخصوص المشاريع المستقبلية أنا الأصيلة. وقد أجد مساعدة في ذلك من أحد مراكز البحث العربية. فالمكتبة العربية تفتقد لمثل هذا المعجم الذي يحتاجه الباحثون في التربية الأصيلة بعد تنامي الاهتمام بها تحت عناوين مختلفة خلال العشرية الماضية وفي الفترة الحالية. – وفي نفس هذا الإطار هنالك إمكانية لاستئناف عمل جماعي بدأناه على مستوى العالم الإسلامي منذ أكثر من عشر سنوات خلت وذلك لتقديم بديل تربوي حضاري عن المنظومات التربوية العربية والغربية المعتمَدة حاليا. وشخصيا أسهمت إلى حد الآن بأربعة كتب في هذا المضمار وهي على التوالي: “رواد الإصلاح التربوي في تونس” (ابن خلدون، الطاهر ابن عاشور، محمد الخضر حسين، الطاهر الحداد) (دار سحر، 2009) و”المجالات التربوية من منظور الأصالة المبدعة” (دار الكلمة، القاهرة، 2016) و”البنائية الاستخلافية” (الأصالة للنشر، الجزائر، 2022) وأخيرا “دراسات في التربية الأصيلة” (تونس، 2023). ولكن ما هو منتظر مني مستقبلا وما أطرحه على نفسي كذلك هو التركيز على مهمة المأسسة أي صياغة تصورات إجرائية لمؤسسات التربية الأصيلة المبدعة. بدات هذا العمل في “البنائية الاستخلافية” وأرجو أن اواصله مع زملاء آخرين في إطار عمل مناسب. كما أني سأشرع بإذن الله في إنجاز دراسة معمقة لإسهام الحضارة الإسلامية في بناء معنى التكامل المعرفي بين العلوم وترسيخه مع تقديم تصورات جديدة في هذا المجال تلتقي على نحو ما مع مشروع إدغار موران في التجسير بين العلوم وإنهاء حالة القطيعة والتجزئة بينها ومع محاولات إعادة بناء المناهج التربوية وفق هذه الرؤية التكاملية والعابرة للمواد التي سمعنا بحدوثها في فنلندا. وسأعود من دون شك في هذا العمل إلى ما سبق لي أن أنجزته في كتابي “المجالات التربوية” من منظور الأصالة المبدعة لكن بتأصيل تاريخي/ ابستمولوجي أوضح وأدق.
س6: هلا تفضّلت دكتور مصدّق بالحديث وإن باختصار عن موضوع رسالتك في الدكتورا؟
طبعا لا يتسع المجال للحديث بإسهاب عن رسالتي في الدكتورا التي ناهزت الـ600 صفحة، وقد كتبتها بالفرنسية، رغم حبي للعربية، لأني كنت آمل في الحصول على إشراف مزدوج لها تونسي- فرنسي، لأسباب لوجستية، ولكن في النهاية، عملت مع أستاذي الفاضل الدكتور خليل قزقز.في أطروحة الدكتورا اشتغلت، كما ذكرت آنفا، على اعتقادات المتعلمين الابستيمية أو ما يمكن تعريفه بنظرياتهم الضمنية حول المعرفة (epistemological beliefs)، وذلك في ارتباطها بالمشكلات ذات البنية المنفتحة ( ill-structuredproblems) والمعقدة أو المُركّبة، وذلك من أجل تطوير هذه الاعتقادات الابستيمية حتى تغدو جدلية وتنسيبية وبنائية.
وقد صغت إشكالية الأطروحة على النحو التالي:
“هل توجد علاقة بين اعتقادات المتعلمين الابستيمية في السياق المدرسي وبين مناويل حلّهم للمشكلات المركّبة والمفتوحة في المواد الإنسانية والاجتماعية على غرار التربية المدنية والتفكير الإسلامي والفلسفة؟ وإلى أيّ حدّ، يقدر المدرّسون، في صورة وجود تلك العلاقة، على تيسير تحقيق تطويرات ابستيمية لدى تلاميذهم على نحو يجعلهم أكثر قدرة على حل تلك المشكلات بطرق مناسبة؟”.
ما المقصود بالاعتقادات الابستيمية؟ المقصود بها اعتقاداتهم حول المعرفة أو نظرياتهم الضمنية حول المعرفة، من حيث طبيعتها وبنيتها ومصدرها وطريقة اكتسابها. إنها ضرب من الاتجاهات العرفانية attitudes cognitives تقع في المستوى العرفاني الذي يلي التمشيات الماوراعرفانية. إنها ضرب من الميتا -ميتا-عرفاني سماه بعض الباحثين معرفة ابستيمية connaissance épistémique (Kitchener, 1983)
وتقليد البحث حول الاعتقادات الابستيمية تقليد أنغلوسكسوني نشأ في مطلع السبعينات على يد الباحث في جامعة هارفارد الأمريكية William Perry (1970)، ولكنه لم يعرف انتشارا حقيقيا إلا منذ نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات في الولايات المتحدة أساسا، ولعلنا أول من اشتغل عليه في تونس وفي العالم العربي. حدث ذلك انطلاقا من أمرين: أولهما حيرتنا إزاء نتائج التلاميذ في المواد الإنسانية وطريقة حلّهم الخطّية والقطعيّة للمشكلات المطروحة ضمنها، وثانيهما عثورنا سنة في مطلع الألفية الثانية على مفهوم الاعتقادات الابستيمية croyances épistémiquesفي قراءتنا لكتاب عن تقييم التمشيات العرفانية لـChristian Depover et BarnadetteNoël (1999) وتحديدا في الفصل الذي كتبته الباحثة البلجيكية Valérie Baffrey-Dumont التي تواصلنا معها لاحقا لمساعدتنا على ضبط قائمة بالمراجع وعلى الاطلاع على آخر مستجدات البحث في هذا الميدان، فكان لنا منها مطلبنا الأول، ولكنا وجدنا مساعدة حقيقية في مسعانا الثاني من قبل ما يناهز الخمسة عشر باحثا أمريكيا على رأسهم الباحثة مارلان شومر Schommer Marlene والباحث الذي افتقدناه مبكّرا پول بنتريتش Paul Pintrich والباحثات والباحثين بندكسن Bendixen وماغولدا Baxter Magolda وبربارا هوفرHofer Barbara وغيرهم…
– كان لهذا العمل رهانان:
* أولهما محاولة التصدي لظاهرة الفشل المدرسي الذي لاحظناه في مستوى المواد الإنسانية والاجتماعية، بدراسة عيّنة من نتائج التلاميذ في التعليم الثانوي ضمن دراسة استكشافية مهّدنا بها للعمل الراهن، تلك المواد التي لها بنية معرفية خاصة تتميز بالتركيب الفائق وبقابلية مشكلاتها لأكثر من حل ولأكثر من معالجة، وهو ما لاحظنا بصفة منظمة صعوبة تمثّله من قبل المتعلمين في مرحلة التعليم الثانوي، الذين يميلون بصفة منتظمة إلى التعامل مع هذا النوع من المشكلات على نحو مُبسِّط ومغلق، أي وفق معالجة خطّيّة وقطعيّة.
وتكتسي مسألة الاعتقادات حول المعرفة كامل أهميتها عندما تطرح إزاء ما يعرف بمعالجة المشكلات المفتوحة، وهي المشكلات التي تعترض المتعلم في المواد الإنسانية والاجتماعية أو المشكلات التي تعترض الأفراد في حياتهم اليومية ومن بينها حياتهم بما هم مواطنون يتعرضون يوميا لعديد المشكلات التي يمكن معالجتها بأكثر من طريقة. وتأتي صعوبة التعامل مع هذا الصنف من المشكلات من كونها غير محدّدة بدقّة تضاهي دقّة المشكلات العلمية الصحيحة، ولذا فهي تحتمل حلولا عديدة، وإن كانت متفاوتة الصحّة والنجاعة.
– وقد افترضنا وجود علاقة منظّمة بين نوع الاعتقادات الابستيمية التي يحملها المتعلمون ومنوال حلهم للمشكلات المفتوحة والمركّبة، بحيث إذا كانت تلك الاعتقادات اثنينية فإن صاحبها يعالج ذلك الضرب من المشكلات معالجة مانويّة قطعية، وإذا كانت تنسيبية فإنها ترتبط بصفة دالة بمعالجات غير قطعية وغير تبسيطية للمشكلات المفتوحة.
ومن ثمّة افترضنا كذلك أن تطوير اعتقادات المتعلمين حول المعرفة من حيث طبيعتها وبنيتها ومصدرها ومساعدتهم على التخلي عن مواقفهم الابستيمية الإطلاقية (عوضا عن التنسيبية) والمبسّطة (عوضا عن التركيبية) والمكرّسة لحالة التبعية إلى السّلط المعرفية أو المقدسة لمعارف القدامى (عوضا عن البنائية) من شأنه أن يساعدهم على حل المشكلات المفتوحة المطروحة في المواد الإنسانية والاجتماعية على نحو غير قطعي وغير دغمائي.
– ولكن هذه الفرضية سبقتها فرضية أخرى وسيطة هي أن اعتماد نموذج تعليمي –ابستيمي (أي يحتوي على عناصر تعليمية-تعلمية تستهدف اعتقادات المتعلمين حول المعرفة) من شأنه أن يطور مواقفهم الابستيمية باتجاه التخلي عن الاعتقاد الساذج بإطلاقية المعرفة وبساطتها وامتلاكها النهائي من قبل السّلط المعرفية، زيادة عن تخلّيهم عن الاعتقاد في نظرية الموهبة أو الهبة الطبيعية أو الإلهية بخصوص الذكاء وعن تهوينهم من شأن الجهد في التغلب على البطء في تملك الكفايات المعرفية.
هذا هو الرهان الأول إذن: مقاومة الفشل المدرسي في مجال الإنسانيات والاجتماعيات، من خلال التمشي الذي تم ذكره.
*أما الرهان الثاني فهو العمل على تحصين الشباب المدرسي، فالجامعي، من الوقوع في أسر الوعي الساذج والزائف والتبسيطي المخلّ من ناحية، ومن مخاطر التطرف والغلوّ في الفكر والاعتقادات دينية كانت أو غيرها، من ناحية ثانية.
للتثبت من الفرضية الأولى (وجود علاقة منتظمة بين اعتقادات المتعلمين المعرفية ومنوال حلهم للمشكلات المفتوحة)، استخدمنا أداتيْ قيس: الأولى تتمثل في استبيان ابستيمي شبه مغلق- شبه مفتوح، والثانية: اختبارات ما قبلية وأخرى ما بعدية وقد تم فيها طرح مشكلات ذات طبيعة مفتوحة في مواد الفلسفة والتفكير الإسلامي والتربية المدنية. وقد تم التثبت بصفة دالّة من صحّة هذه الفرضية.
الاستبيان وضعناه لقيس اعتقادات المتعلمين حول المعرفة في مستوى خمسة أبعاد ابستيمية. ثلاثة منها تنتمي للنواة الصلبة لمنظومة الاعتقادات الابستيمية، وهي طبيعة المعرفة وبنيتها ومصدرها، واثنان تُعدّ من العناصر المحيطية لتلك المنظومة الاعتقادية، وهما: الاعتقادات حول الذكاء (وراثي أم مكتسب) والاعتقادات حول سرعة التعلم (التعلم يتم من اللحظة الأولى أولا يحصل أبدا/ التعلم يحصل ببذل الجهد حتى وإن لم يتم للوهلة الأولى).
– أما الفرضية الثانية المتعلّقة بوجود علاقة منتظمة بين نوع التدخل الديداكتيكي للمدرّس (الآخذ بعين الاعتبار لاعتقادات المتعلمين المعرفية أم لا) وبين درجة تطور تلك الاعتقادات لدى المتعلمين، فقد استخدمنا للتثبت منها شبكة ملاحظة منهجية من نوع “منظومة علامات” système de signes وبنينا لذلك “منظومة المعايير الابستيمية التعليمية”.Système d’Indicateurs Épistémo-Didactiques (SIED)
وذلك لقيس مدى التزام المدرّس بمراعاة البعد الابستيمي في تدخلاته التعليمية وتسييره لمجموعة الفصل. كما استخدمنا نتائج الاستبيان الابستيمي الذي سبقت الإشارة إليه لقيس مدى التطور الحاصل في اعتقادات المتعلمين حول المعرفة.
وجاءت النتائج عموما مثبتة لهذه الفرضية بصفة دالة، مع تفاوت بينها من مادة إلى أخرى (المواد الثلاث المذكورة آنفا) ومن مستوى تعليمي إلى آخر (الثانية ثانوي والرابعة ثانوي) وذلك تبعا لدرجة التزام المدرس في تنشيط قسمه بالتوجه الإيقاظي الابستيمي المجسّد من خلال تطبيقه للنموذج الديداكتيكي الابستيمي
modèle épistémo-didactique : MEDالذي بنيناه والذي هو عينه البروتوكول التجريبي التعليمي الابستيمي.
- أخيرا، استخدمنا للتثبت من الفرضية الثالثة المتعلقة بوجود علاقة منتظمة بين درجة الإيقاظ الابستيمي الذي يمارسه المدرس مع تلاميذه وبين قدرتهم على حل المشكلات المفتوحة حلا مناسبا لها، استخدمنا لها شبكة الملاحظة الموسومة بـ”منظومة المعايير الابستيمية” والاختبارات الماقبلية والمابعدية المتمثلة في مشكلات مفتوحة مطروحة في المواد المدرسية الثلاث التي اهتمت بها الدراسة الراهنة.
وقد استخدمنا على الصعيد الإحصائي عديد الأدوات الإحصائية مثل معامل الارتباطr بيرسون وتي دي ستودنت وزاد دي كلموغروف سميرنوف والتباين (آف دي سندكور).
r de Bravais Pearson ; le t de student ; le Z de Kolmogorov Smirnov et la covariance (F de Snedecor).
هذا وقد جمعنا في التثبت من الفرضيتين الرئيسيتين الثانية والثالثة للدراسة الراهنة، عبر التثبت في كل فرضياتهما الثانوية (خمسة عشر فرضية ثانوية: 5 أبعاد لمنظومة الاعتقادات الابستيمية X 3 مواد مدرسية: التربية المدنية في س2 ثانوي والفلسفة والتفكير الإسلامي في الباكالوريا) جمعنا بين التحليل الإحصائي الوصفي والتحليل الإحصائي الاستدلالي. فجاءت النتائج عموما غير بعيدة عن التوقعات وبصفة دالة إحصائيا.
هذا العمل كان منطلقا سنة 2008 لإعداد وحدة تكوينية لصالح المركز الوطني لتكوين المكونين في التربية تولّى المترشح شخصيا الإشراف على لجنتها العلمية (التي ضمت الأساتذة عبد الكريم العبيدي (فلسفة) ومحمد الرحموني (حضارة) وفاضل حرزلي (تعلمية المواد الاجتماعية) وجاءت هذه الوحدة تحت عنوان: “التربية على الحس النقدي وتقبل الاختلاف والعيش المشترك” وشملت خمسة مواد تدرّس بالتعليم الثانوي وهي التالية: الفلسفة والحضارة العربية والتربية المدنية والتفكير الإسلامي والجغرافيا. وقد جُرّبت مع مجموعة من متفقدي هذه المواد وتمّت المصادقة عليها من قبل وزارة التربية.
س 7:منذ مدة طرح على الساحة الوطنية ملف الإصلاح التربوي، ما الداعي إلى طرح هذا الملف أو ما هي مظاهر الإعضال في المنظومة التربوية التونسية التي تستوجب معالجة إصلاحية برأيك؟
قامت الثورة التونسية على جملة من الشعارات المشروعة من بينها تشغيل الشباب المعطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا. وهذا أمر يعبر عن مظهر من مظاهر فشل المدرسة التونسية في تلبية انتظارات المجتمع منها. ولكن توجد مظاهر أخرى للإعضال التربوي في تونس لا تقل أهمية عن هذا المظهر الهام له، وقد حددناها في سبعة أدواء نخرت كيان هذا النظام إلى حد إصابته بمرض الهشاشة البنيوية، نعرضها على التوالي مع شرح أهم أسبابها واقتراح سبل لعلاجها:
- سوء العلاقة التربوية والمناخ التربوي بصفة عامة، ومن دلائله تفشي ظاهرة العنف اللفظي والمادي وتراجع مكانة المربي الاجتماعية.
- فشل المقاربات البيداغوجية التجديدية وتعرضها لمقاومة شديدة من قبل المعلمين والأساتذة. ولهذا الأمر أسباب متنوعة، منها نزوع الإنسان عادة نحو التمسك بالقديم والاقتصاد في الجهد، خاصة في غياب الحوافز المعنوية والمادية أو ضعفها، ولكن السبب الأهم هو درجة التعقيد الذي عليه هذه المقاربات البيداغوجية مثل المقاربة بالكفايات، التي قد لا تحمل في حد ذاتها نقاط ضعف كبيرة، بما أنها مستندة إلى أسس علمية في علم النفس العرفاني وعلم النفس البنائي، ولكن صعوبة استيعابها من قبل المدرسين يعود على الأرجح إلى افتقادهم لتكوين أساسي متين في علوم التربية وفي علم نفس التربية والديداكتيك على وجه الخصوص، والتركيز على النواحي التقنية الثقيلة فيها من قبل المكونين على حساب تعميق الفهم لفلسفتها ولروحها لدى المعلمين.
- عدم التلاؤم بين منظومة التقييم والمقاربة التربوية المعتمدة: في الاتدائي التدريس بالكفايات والتقييم بمنظومة تقييم سلوكية béhavioriste أي تقييم يتلاءم مع بيداغوجيا الأهداف. وفي الثانوي، اعتماد مقاربة تربوية هجينة، لا هي المقاربة الكفايات ولا هي بيداغوجيا الأهداف. وذلك للفشل في إقناع نقابة التعليم الثانوي بذلك، التي اعترف بعض مسؤوليها لاحقا بأن جانبا هاما من الرفض كان ذا طابع سياسي.
- استشراء الفساد في دواليب وزارة التربية: تسميات وظيفية وإسناد شهائد نجاح من دون موجبات شرعية- سرقة معدات ثمينية –حواسيب وغيرها)- إجراء مناقصات مشبوهة..الخ.
- عدم ملاءمة ملامح خريجي المدرسة التونسية لمتطلبات سوق الشغل. وهذا عائد في جزء منه إلى طبيعة منوال التنمية الذي لا يستوعب الكفاءات العليا وكذلك إلى منوال التربية الذي لا يعدّ إلى حاجات سوق الشغل.
- ضعف التكوين اللغوي للمتخرجين فضلا عن المنقطعين عن الدراسة، سواء في مستوى اللغة الأم أو في مستوى اللغات الأجنبية. وهذا عائد في جانب منه إلى تذبذب الاختيارات على هذا الصعيد وارتجاليتها وعدم ارتكازها على دراسات علمية دقيقة في البيئة التونسية، كما هو عائد إلى التخلي عن مواد هامة مثل المطالعة الحرة والموجهة والإملاء والتساهل المفرط في مراقبة وتصحيح الأخطاء اللغوية، وهجانة اللغة المستخدمة من قبل عدد من المدرسين التي هي خليط من فرنسية وعربية ودارجة.
- تخلي المدرسة عن بعض واجباتها من خلال انتشار الدروس الخصوصية.
س8:وما هي العوامل المتسبّبة في أزمة المدرسة؟
هذه العوامل صنفان: صنف من درجة أولية وصنف من درجة أرقى ابستمولوجيا.
ضمن الصنف الأوّل يمكننا رصد العوامل الآتية:
- ضعف تكوين أغلب المدرسين العلمي والبيداغوجي (تخلي مؤسسات التكوين عن وظائفها بالرغم من وجودها).
- تراجع مكانة المربي الاجتماعية والرمزية، مما حدا به إلى الالتجاء المبالغ فيه إلى الاسترزاق من الدروس الخصوصية، وهو ما فاقم تراجع مكانته الأدبية رغم حل مشكلته المادية جزئيا.
- ضعف الموارد المالية الموضوعة على ذمة المنظومة التربوية: فبالنظر إلى الرهان الكبير المعقود على تربية الإنسان وتكوين المواطن الفعال في بلادنا، كما تروجه الشعارات، على حساب التحقيق الفعلي لها، تعتبر الإمكانات المادية المرصودة للتربية في تونس ضعيفة ولا تفي بالحاجة.
- تدهور حالة البنية التحتية للمؤسسات التربوية وافتقادها في الغالب الأعم إلى التجهيزات اللازمة والسليمة والمحينة من مخابر وأدوات مخبرية وحواسيب ونوادي اختصاص وملاعب رياضية…الخ.
- ثقل المناهج التعليمية وجمودها وعدم تجددها منذ سنوات طويلة (مثال دروس الإعلامية التي لم تجدد منذ حوالي عشرين سنة).
- ضعف وظيفية التوجيه المدرسي والجامعي بحكم تجاهله لميول المتعلمين وعدم اعتبار حاجات المجتمع والمؤسسات التشغيلية.
- تدخل السياسي الاعتباطي في البيداغوجي وعدم استقلالية المؤسسة التربوية.
لكن توجد كما أسلفت، أسباب أعمق لأزمة المدرسة التونسية، وهي برأيي الأسباب الآتية:
- عدم وجود سياسة وطنية سيادية للإصلاح التربوي وهو عائد إلى حالة التبعية الاقتصادية التي تعيشها البلاد نظرا للصعوبات المالية التي تعاني منها بسبب منوال التنمية الكمبرادوري التابع.
- ضعف منظومة الحوكمة في المنظومة التربوية بما أدى إلى استشراء الفساد فيها وهدر جانب كبير من إمكانياتها المادية وسوء توظيف طاقاتها وكفاءاتها البشرية.
- وبصفة أعم وجود أزمة قيم: المحسوبية- الغش- العنف- الاستهتار والانحطاط الأخلاقي- تعاطي المخدرات…الخ.
- المركزية المفرطة المطبقة في المنظومة التربوية.
- حصول قطيعة بين البحث العلمي في المجال التربوي والتنموي واختيارات المنظومة التربوية المؤسسية والبيداغوجية والمنهاجية، وبصفة أعم الانقطاع الحاصل بين مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي وبين مختلف مستويات التعليم من المرحلة الماقبل مدرسية إلى نهاية التعليم العالي
- عدم اعتماد هندسة الإصلاحات التربوية بما تتضمنه من مداخل للإصلاح ومعايير لمختلف مكوناتها.
- الفصل بين النظري والتطبيقي وبين وظيفة التعليم ووظيفة التكوين.
س9 :لو حاولت تلخيص هذه العوامل وتكثيفها؟
إذا كان المقصود بهذا السؤال تحديد أخطر أسباب الأزمة التربوية، فسأختار الأسباب الثلاثة الآتية:
- عدم استقلال المنظومة التربوية عن الوصاية الخارجية.
- أزمة القيم وتغييب الأخلاق بالكامل من اختيارات الإصلاح سابقا وفي الوقت الحالي
- عدم اعتماد منهج علمي يوظف هندسة إصلاح النظم التربوية في إعادة بناء المنظومة التربوية.
وإذا طلب مني تحديد السبب الأكبر للأزمة التربوية فسأقول إنه افتقاد السيادة الوطنية في مجالي التنمية والتربية. لاحظوا مثلا أن تونس تأتي مباشرة بعد فرنسا في ترتيب انضباط التلاميذ المدرسي، أي في المرتبة الأخيرة، من بين 73 بلدا خضع للتقييم. أي إن عدم اهتمام الفرنسيين بالمسألة القيمية الأخلاقية قد مرّ إلى التونسيين عبر الوصفات الجاهزة للنموذج التربوي المفضّل فرنسيا. ولاحظوا كيف أن المنهاج التربوي العام المنجز من قبل لجنة من المتفقدين قد خلا من أي مدخل تربوي من المداخل المعروفة في هندسة الإصلاحات التربوية، وذلك بإشراف المكتب الدولي للدراسات البيداغوجية التابع لوزارة التربية الفرنسية. فمسألتا القيم الأخلاقية والهندسة التربوية المفقودتان في خيارات الإصلاح التربوي الرسمي ضمن باب الفلسفة التربوية أو المبادئ العامة وباب منهجية الإصلاح التربوي، أي القيم والنجاعة، هاتان المسألتان ترتبطان مباشرة بقضية السيادة الوطنية وافتقاد التونسيين لاستقلالية قرارهم الوطني.
س10:ما هي الحلول لأزمة المدرسة التونسية حسب رأيك؟
لقد جربنا في الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية، منذ ماي 2015، العمل على ما سميناه “تصحيح مسار الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية”، على أساس وجود شركاء وحلفاء مفترضين في اتحاد الشغل وفي الأحزاب وفي الكتل البرلمانية وفي المجتمع المدني وفي جمهور المربين والأولياء، يمكن أن يساعدوننا على إنجاز هذه المهمة. وما توصلنا إليه بعد عمل سنتين بصفة إجمالية هو غياب الإرادة السياسية لفكّ الارتهان مع منظومة الولاء للخارج واستمرار الخضوع لإملاءات القوى الأجنبية المتعارضة مع المصالح الوطنية، رغم الفرصة التاريخية التي منحتها الثورة للدولة التونسية لتخفيف قبضة الهيمنة الخارجية على رقبتها. أي أن أطروحة باولو فريري حول تربية المقهورين ما زالت تحافظ على كامل راهنيتها.
غياب الإرادة السياسية لإصلاح وطني سيادي ناتج عن عدة عوامل خطيرة، من أبرزها تطبيق منوال تنمية يكرّس بالأساس خدمة مصالح الشركات ورؤوس الأموال الأجنبية وضمان حصول الرأسمال الداخلي التابع (الكمبرادور) على نصيبه من الأرباح اللامشروعة من ثروات البلاد وفائض قيمة الجهد الوطني في العمل والإنتاج.
ومن هنا نستنتج استحالة ضمان تحقيق إصلاح تربوي ذي توجه سيادي وطني. وذلك لطبيعة السيستام السياسي-الاقتصادي المطبق فعليا وحاليا في مخالفة واضحة لبنود الدستور التونسي الناص على السيادة الوطنية والديمقراطية التشاركية والمحلية وعلى الهوية الوطنية العربية الإسلامية لتونس. وأبرز دليل على ذلك هو أن آخر محطة انتهى إليها هذا الإصلاح “الرسمي” هو تسليم مهمة الإشراف على إعداد المناهج التربوية لبيت خبرة فرنسي يمثل الواجهة الخارجية لوزارة التربية والحكومة الفرنسية، وهو نفس بيت الخبرة وهم نفس الخبراء الذين أشرفوا على مناهجنا التربوية زمن نظام بن علي. وأسباب غلبة هذا التوجه التابع للإصلاح التربوي الحالي عديدة من بينها طبيعة النخبة الحاكمة وتركيبتها ونوع توجهاتها واختياراتها السياسية، فضلا عن حالة الهشاشة المفزعة التي عليها الاقتصاد الوطني (اللاوطني) في الوقت الحاضر واستشراء الفساد على نطاق واسع في أجهزة الدولة وفي المجتمع. ولا نعتقد أنه بقدوم وزير التربية الجديد سيحدث تغير جوهري في مقاربة الإصلاح التربوي. أقصى ما يمكن انتظاره، مع تدعم الاتفاقات مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والمساعدات المالية المشروطة، هو بعض الترضيات الشكلية لبعض الأطراف الاجتماعية أو الحزبية المشاركة في الائتلاف الحاكم.
في ضوء هذا التقييم لوضع الإصلاح التربوي، لم يبق للفاعلين التربويين في المجتمع المدني والنشطاء السياسيين في الأحزاب الوطنية ذات الخيار الديمقراطي الاجتماعي والسيادي الوطني إلا التوجه نحو الخيار الثاني ضمن معادلة سياسية-مدنية مقاومة للتبعية وللاستجابة اللامشروطة للضغوط والإملاءات الخارجية.
يمكن القول إجمالا أنه لا إصلاح وطني سيادي في إطار هذه التبعية المخجلة واختلال التوازن المجحف لصالح القوى المالية الخارجية.
بهذا تصبح معركة التنمية ومعركة التربية معركة واحدة.
وبناء عليه، يجب أن تتعاضد جهود خبراء التنمية وخبراء التربية الوطنيين من أجل كسب هذه المعركة. كما يجب توفّر حاضنة شعبية اجتماعية منتشرة على كامل البلاد لمناصرة هذا التوجه. وهذا ما يتطلب نشر الوعي الاجتماعي والوعي المواطني السيادي في صفوف الشعب. وهنا يأتي دور المجتمع المدني ودور الأنشطة الثقافية الهادفة، كما يجب ألا نغفل عن ضرورة انخراط أولياء التلاميذ في هذا الحراك المواطني للوقوف إلى جانب مستقبل أبنائهم. وحري بالأحزاب الوطنية ذات التوجه الديمقراطي الاجتماعي والمنظمات الوطنية أن تتموقع في هذا الخندق الوطني المقاوم هي الأخرى. وهو ما قد يفضي في الأخير إلى بناء كتلة تاريخية واسعة النطاق من أجل الانعتاق، قد تتخذ مدنيا شكل تحالف وطني عريض من أجل التنمية والتربية، وهو ما نأمله وما ندعو إليه.
قبل أن أنهي، وحتى أكون قريبا أكثر من الواقع العملي، أنبه إلى وجوب التفكير بطريقة متشعبة divergente ولكنها تعود في الأخير لتصب في هدف واحد فتكون سهميةconvergente
- أولا: اعتماد طريق المقاومة الوطنية المدنية بنشر الوعي الاجتماعي والثقافي الوطني المواطني لدى عموم الشعب والضغط على مراكز القرار والتشريع لتوفير الحد الأدنى من شروط الاستقلال الممكّن من تحرر القرار السيادي الوطني.
- ثانيا: تصعيد البديل السياسي الوطني وتكوين جبهة ديمقراطية اجتماعية واسعة (كتلة تاريخية تضم اليمين واليسار المعتدل إلى جانب القوى الوسطية والاجتماعية الضاغطة).
- ثالثا: توفير بديل عن بيوت الخبرة الأجنبية في مجالي التربية والتنمية، وأذكر في ما يخص التربية بما اقترحه الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية وما أسفرت عنه مختلف الاستشارات الوطنية من ضرورة إحداث مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي يكون مستقلا عن الوزارات ذات العلاقة، التي تكون رغم ذلك ممثلة فيه في أعلى مستوى إلى جانب المنظمات الوطنية والجمعيات والشبكات التربوية ومختلف أصناف الفاعلين التربويين، تحت إشراف رئاسة الحكومة. تضم هيكلة هذا المجلس هيئة علمية هي بمثابة بيت خبرة وطني يضم خبراء وطنيين في التربية والتنمية. كما يتفرع عنه معهد وطني لتقييم المنظومة التربوية.
– رابعا: توفير بديل عن التمويل الأجنبي بإحداث مؤسسة وطنية عامة للتمويل الطوعي القار، أو ما يسمى بالوقف العام. أي الوقف الذي يتم الإشراف عليه من قبل الدولة من خلال مؤسسة وطنية مستقلة عن وزارة المالية وعن البنك المركزي وتحت إشراف رئاسة الحكومة. وتكون أوجه الصرف متجهة نحو التعليم والتكوين والبحث العلمي والصحة والفلاحة.
– خامسا: قيادة الحكومة المنتخبة ديمقراطيا مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ومع البنك الدولي من أجل ضمان تبني منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي الوطنية لأفضل الخيارات والنماذج في هذا المجال، بحيث تقاد هذه المفاوضات بطريقة عقلانية وتشاركية بناءة، ولا تحرم بلادنا من الاستفادة من أنجح التجارب التربوية والتنموية في العالم.
س 11: ننتهي معكم دكتور مصدق الجليدي بقضية لا زالت تثير جدلا في أوساط المهتمين بإصلاح المناهج التربوية، وهي قضية التعليم الديني. فهنالك من وصل به أمر الإرهابوفوبيا إلى المطالبة بإلغاء التربية الإسلامية من المناهج الدراسية التونسية. كيف تنظرون أنتم إلى هذه المسألة؟
صحيح هنالك من طالب بهذا الأمر من بين قيادة الإصلاح التربوي الحالية التي بها حضور يساري فرنكفوني بارز. مما لا شكّ فيه أن المناداة بإلغاء التربية الإسلامية أمر غير مقبول وذلك من وجهين: فهو أولا يستند إلى فهم مغلوط لظاهرة الإرهاب، وهو ثانيا أمر يتعارض مع الدستور الجديد الذي يفرض على الدولة أن ترسّخ الناشئة في هويتها العربية الإسلامية (الفصل 39). والبديل لدينا عن هذا الطرح المتطرف والاستئصالي المشبوه هو اعتماد مقاربة تنويرية في التعليم الديني.
لنعرّف أولا التنوير.ما هو التنوير؟ يعرّف كانط التنوير بكونه “تحرر الفرد من الوصاية التي جلبها لنفسه” ويعرّف الوصاية بكونها “عدمقدرة الفرد على استخدام فهمه الخاص دون توجيه من الآخر”. ويشرح بأن سبب هذه الوصاية ليس القصور العقلي، بل السبب هو انعدام الإقدام والشجاعة على استخدامه [أيالعقل] دون توجيه من الآخر”. “تشجّع لتعلم!”فلتكن لديكالشجاعة لاستخدام عقلك الخاص!” هذا هو شعار التنوير. كما أطلقه كانط. التنوير إذن هو حركة تحرّر وتحرير من عبودية الوصاية ومن هيمنة الأوصياء الذين نصبوا أنفسهم على الجمهور. التنوير هو الكوجيطو: “أنا أفكّر، أنا موجود”. لا وجود حقيقي لي كبشر إلا بالتفكير الذاتي. بقية الوظائف الحيوية أتساوى فيها مع النبات والحيوان. الحياة الروحية هي تتويج للتفكير المتأمل وممارسة له، بحسب محمد إقبال. التجربة الفكرية والروحية المتحررة بالكامل من الوصاية هي التي تشعّ النور في العقل.
الآن، علينا الإجابة عن سؤال “ما التنوير الديني؟”
إنّ مفهوم التنوير في المنظور الديني يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان والدعوة لإله واحد. ويتلخص التنوير الدينيبهذه الآية الكريمة: ” قد جاءَكمُ منَ اللهِ نورٌ وكتابٌ مبين*يَهدي بهالله من أتبعَ رضوانهُ سُبل السلامِ ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنهِويهديهم الى صراط مستقيم” [المائدة:15 -16] وبالطبع اخراج الناس منالظلمات الى النور معناه إخراجهم من الشِرك الى التوحيد، إخراج الناس منعبودية الاصنام والآلهة المتعددة الى عبودية الله الواحد الأحد وهذا مرهونبرضا الله: ” ومن لمَّ يجعل اللهُ له نوراً فما لهُ من نورٍ” [النور:40].
فهل توجد علاقة بين مفهوم التنوير الديني كما يعبّر عنه مفهوم النور القرآني، من جهة ومفهوم التنوير كما جاء في فلسفة الأنوار من جهة ثانية؟
إذا ما بحثنا عن هذه العلاقة في إطار الفهم التقليدي للنور القرآني فسوف يصعب علينا إثبات وجودها، بل سننتهي على الأرجح إلى الإقرار بوجود منظومتين تنويريتين متوازيتين: واحدة عقلية وأخرى روحية.
في ما يخصّني شخصيا بما أنا مفكّر حرّ مؤمن، لا أقيم عداوة بين العقل والإيمان، شأني في ذلك شأن الفيلسوف الألماني كانط، الذي جعل الإيمان بوجود الله شرطا من شروط إمكان بناء العقل العملي ومصادرة من مصادراته، أو ديكارت الذي جعل “الله” ضمانة ابستمولوجية لصحة العلم في وجه الشك الوسواسي الشيطاني الماكر، ولا أقيم قطيعة بينهما، شأني في ذلك شأن ابن رشد في وصله بين الشريعة والحكمة، أو الغزالي في تصوره للعقل شرعا من داخل، والشرع عقلا من خارج (نور على نور)، أو إدغار موران الذي يدمج في مفهوم العقل مفاهيم الحبّ والتوبة، فإني لن أجعل مفهوم التنوير الأوروبي حكما على مفهوم النور القرآني، بل العكس هو الذي أفعله. وما يوصلني إليه هذا الاختيار المنهجي الواعي هو أن التنوير الأوروبي إن هو إلا وجه من وجهيْ التنوير القرآني، وهو الوجه الفكري الفلسفي منه. أما الوجه الآخر الذي يفتقده التنوير الأوروبي فهو النّور الروحي الشهودي. والنوران العقلي والروحي مندمجين في التنوير القرآني. حيث إن الإيمان الصحيح الذي هو التوحيد لا يتم إلا بالقطع من الفكر الخرافي والأسطوري. فالوثنيّة خلافا لعقيدة التوحيد، عقيدة مبنيّة على الأوهام، ولذلك فهي تفترض خضوع العالم لتأثيرات الآلهة المعبودة بشكل عشوائي، مما يجعله في حالة من الفوضى لا يمكن ضبطها عقلا، ومن هنا استحالة بناء العلم الذي يفترض اطراد وقوع الأحداث في الطّبيعة بكيفيات موحدة يمكن صياغتها رياضيا استنادا إلى مبدإ السببيّة. بينما عقيدة التوحيد تسمح بتصور وجود نظام واحد للعالم مستقر وضمانة ذلك صدوره عن خالق واحد حكيم لا تجد لسنته تبديلا ولا تحويلا. ومن هنا إمكانيّة بناء العلم الصحيح والتحكم ولو جزئيا في مسار العالم لصالح تقدم الإنسان ونهضة الأمم. وهذا ما ذهب إليه الشيخ الطاهر ابن عاشور في وجه العلاقة بين حالة العقيدة والعلم، إذ يقول في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: “والقرآن قد شهد بذلك ونبه إليه من قبل، فقد وجدتُ شاهديْن لذلك فيه: أوّلهما ﴿وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدّها ما كانت تعبدُ من دون الله﴾ (النمل: 42). أي صدّها عن حصول العلم النافع عبادتُها الشمس، فكانت بذلك الاعتقاد منصرفة عن الكمال العلمي والرشد الفكري واستكمال الحضارة الصّحيحة. وثانيهما قوله تعالى: ﴿فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربّك وما زادوهم غير تتبيب﴾ (هود: 101). فجعل لحال اعتقادهم أثرا في زيادة هلاكهم أي التسبب فيه، وليس ذلك من فعل الآلهة إذ الآلهة لا تصدر منها أفعال تنفع أو تضرّ، وإنّما الذي يضرّ هو التعاليم المؤثرة في نفوس أتباعهم من الاعتماد على أوهام باطلة لا تلائم نظم العمران في هذا العالم، فلا تلبث تعاليمها ان تصادم ما تقتضيه نواميس العمران الحقة، فيجيء الهلاك سريعا، لأنّ أعمال النّاس في هذا العالم إنّما تتمثّل على مثال فكرهم وعقولهم وأخلاقهم، والفكرة والخلق نتيجة التعاليم الخاصة وحالة الوسط العامة”.
هذا المفهوم للتنوير الديني الذي يتلخص في القطع من الأوهام والتحرر من سلطة الأصنام وفهم العالم فهما علميا يتكامل مع التسليم بصدوره عن خالق حكيم وضع له قوانين ونواميس ثابتة هي موضوع النظر العلمي، يمكن إدراجه ضمن براديغم الإيمان والنبوة. ولكن يوجد فهم آخر للتنوير الديني لا يلغي الإيمان ولا ينكر الوحي، ولكنه يركّز أكثر على الإنسان والأنسنة وعلى التاريخ والعقل وله صلة أوضح بمعنى التنوير الحداثي الكانطي، هذا الفهم . يرتبط بمفهوم ختم النبوة الذي يعني رفع الوصاية عن عقل الإنسان.
بقي أن نجيب أخيرا على سؤال: لماذا نحتاج التربية وفق منظور التنوير الديني؟
لقد كشفت ظاهرة ما سمّي بثورات الربيع العربي عن ظواهر مكبوتة عدّة، من بينها البروز الكبير للظاهرة الإسلاموية السلفية المتشددة. وللظاهرة الأخيرة أسباب عديدة يندرج بعضها في إطار عولمي عام اتسم ببروز تيارات “الجهل المقدس”(1)، حيث ينفصل الدين عن الثقافة ليكتسح العالم في شكل غزو عالمي متشنج بل وعنيف في أحيان كثيرة. غير أن واحدا من هذه الأسباب يقع في مجال التربية وبمعنيين متقابلين: نقص حاد في التربية الدينية وإفراط فيها في الآن نفسه: نقص فادح في التربية الدينية المستندة إلى أسس علمية محتوى وطريقة وأسلوبا، وإفراط في اعتماد صيغة نصّية حَرفيّة للدين منتزعة من كل سياق ثقافي وتاريخي واجتماعي واقعي وباعتماد أسلوب تبليغي تقريري وعظي يكاد يكون إجباريا وإلزاميا. لذلك على التعليم الديني الجديد اليوم العمل على رفع ذاك الجهل المقدس وتوعية الشباب بمقاصد الدين السمحة والنبيلة وحمايته من التطرف والانخراط في العنف في الآن نفسه. وإن إحدى أوضح السبل لبلوغ هذه الغاية هي بناء التعليم الديني على أسس بنائية علمية متينة.
المطلوب اليوم هو اعتماد التنوير الديني في التربية والتعليم بدل سياسة تجفيف منابع التدين والروحانية التي أدّت إلى تصحّر في الثقافة الدينية وخواء في التجربة الروحية، مما جعل الشباب لقمة سائغة لمحتطبي الإرهاب. من مدرسة وجامعة إصلاحي 1991 و2002 تخرّج الآلاف من المتشددين دينيا ومن الإرهابيين.
تعميق الثقافة الدينية والتكوين العلمي الشرعي على أسس تنويرية ضمانة من ضمانات السلم الروحي والأهلي وحصن متين من الحصون ضد التطرف والإرهاب.
المطلوب في التعليم الديني التنويري هو ممارسة نقل تعليمي transposition didactiqueمناسب، حيث إن عملية النقل التعليمي في مجال التربية والتفكير الإسلامي يجب أن نبدأ بإعادة تقييم المنزلة المعرفية للعلوم الإسلامية القديمة وعدم استنساخها كما هي وحشو عقول الناشئة بها، كما لو أنها حقائق مطلقة ونهائية ولم تتعرض لعمليات إنتاج وإعادة إنتاج تاريخي ونقد معرفي على يد علماء الأمة السابقين أنفسهم، فضلا عن قابليتها للنقد من اللاحقين منهم في الوقت الحاضر. ومجال الفقه وأصوله والمقاصد وعلوم القرآن والحديث كلها حظائر للعمل والفهم والاستيعاب والمراجعة والتقييم والتطوير والتجديد والإصلاح على يد العلماء المختصين المعاصرين، كما كان الحال مع الشيخ الطاهر ابن عاشور في المقاصد مثلا، ومحمد إقبال في الفلسفة الإسلامية وغيرهما من المفكرين والعلماء المجددين. هذا كله عمل جبار يجب أن يسبق بناء المعرفة المدرسية في مجال التعليم الديني. وليست الساحة خلوا من اجتهادات محمودة في هذا الاتجاه ولكن يجب على المختصين في وضع المناهج التعليمية الانتباه إليها ورصدها وتخير الأنسب منها لابستيمية العصر الحديث ولروحانية الأمة التي هي روحانية توحيدية استخلافية، في نفس الوقت، مع ضرورة مواصلة جهود التجديد والإصلاح في الفكر الديني والعلوم الإسلامية
جاورته أحلام رحومة